تتميز القصة التالية بكون أحداثها تمزج بين خيال واضح و واقع ضبابي، لكنها لا تندرج ضمن ما يسمى "الحكاية الخرافية " لأن أبطالها – على الأقل - حقيقيون و أسماؤهم موثقة في كافة المراجع التاريخية المحلية و الأجنبية.
بمعنى أني لا أقدم القصة كحدث حقيقي لأؤكدها كما أني لا أنفيها كليا أو أنفي بعض تفاصيلها الجزئية لأنكرها.
و يبقى القول أن دوري فيها محصور في نقل نصها من الحسانية إلى الفصحى مع احترام الترتيب الزماني و المكاني الذي وصلتني به وأني إنما اقتبستها من التراث البيظاني الشفوي و أرويها عن مجموعة من دهاقنة التيدينيت و المتعاملين مع التراث الحساني و في مقدمتهم الأديب الكبير سيدي ولد دندني أطال الله عمره،
------------------
عل غرار ما يحدث في كل المجتمعات القبلية لم تخلُ الساحة البيظانية من صراعات محدودة أحيانا و حروب مفتوحة أحيانا أخرى بين القبائل المتجاورة أو حتى داخل القبيلة الواحدة إما بسبب المراعي أو المغارم أو الأتاوات أو حقوق الغفر أو مناطق النفوذ أو الولاءات العصبية أو لأي سبب آخر مهما يكن تافها.
و قد حدث في نهاية القرن الثامن عشر أن احتدم النزاع بين قبيلة أولاد امبارك و قبيلة مجاورة تربطها بها علاقة خؤولة متبادلة بحيث أن أمهات فئة عريضة من أمراء أولاد امبارك تنْـتَـمينَ لهذه القبيلة كما أن كثيرا من أمراء هذه القبيلة لهم أخوال من أولاد امبارك تسمّوا بأسمائهم و تطبّعوا بطِباعهم أبا عن جد.
و في إطار هذا النزاع عمِل هؤلاء الأخوال بشتى الوسائل على حيازة كل وسيلة من شأنها ترجيح كفتهم و ضمان تفوقهم العسكري في الصراع الدائر على النفوذ في المنطقة.
و قد كانت نقط القوة كثيرة و متنوعة عند أولاد امبارك كما كانت عند أخوالهم الذين هم خصومهم في نفس الوقت.
ومن نقط قوة المغافرة هو ما اشتهروا به من إقدامِ و قوة شكيمة ودربة فرسانهم كما اشتهروا أيضا و خصوصا بخيلهم التي كانت مضرب الأمثال والتي ما زال نسلها في ملكية الجيل الحالي من أولاد امبارك من أهل أعمر الشماتة ولد محمد الزناكَي.
و حيث إن الأخوال قرروا الحصول على عينة من خيل أولاد امبارك، من شأنها أن تُشكل بذرة مرْبطٍ من الخيول الجيدة لتنميتها مستقبلا في مضاربهم فقد اتفقوا ألَّا تكون هذه العينة فرسا عادية بل قرروا الاّ تكون غير فرس زعيم من زعماء أولاد امبارك.
و بما أن هؤلاء الزعماء و الأعيان كانوا كُثُرا بين أولاد امبارك و بما أن حرائرهم نفسها كانت كثيرة بكثرة هؤلاء الأعيان فقد كانت خيلهم هذه عصية على التصنيف أو التفاضل لمهارتها و سرعتها و شدة بأسها لدرجة أن المرء لَيحتار في وضع الترتيب المناسب عند محاولة تقييمه لأدائها لأن هذه "جريبات لحرائر" التي كانت سواسية كأسنان المشط في الأداء و السرعة و الفعالية: "أم اعكَال" و "الرزامة" و "اللبيّكَ" و "الحو"، و "الشهبة" و " و ام اجناح" " اكريكيبات و "اطويرحات" و "امنات ام ازريبة" و "امنات أمات الروص " دون ذكر "منت الدحّارة"، فرس بوسيف ولد أحمد ولد هنون لعبيدي أو "ميمونة"، فرس سيد أحمد فال بن بوسيف أو " لبْيظْ"، جواد حمادي ولد الدليل أو "الحمرة"، فرس الكفية ولد بوسيف مثالا لا حصرا .
لذلك و قع الأخوال في ما يسمى "حرج الاختيار" أو l’embarras du choix بسبب هذا المخزون الهائل من الخيل الحرائر التي من شأن كل واحدة منها أن تلهيك عن أختها أو تنسيك فيها.
و عليه و بعد عدد من الاجتماعات و جلسات الترافع و المداولات المتتالية للحسم في اختيار الفرس التي ينبغي الاستيلاء عليها بأية طريقة، عقد الأخوال العزم على المضي بعيدا في الطموح و الرهان على فرس تكتسي رمزية خاصة عند مختلف بطون أولاد امبارك لما لها و لمالكها من اعتبار خاص في المجتمع لمباركي : إنها الفرس المسماة " المزوزة" لصاحبها " اعلي الشيخ ولد هنون ولد بهدل ولد محمد الزناكي المتوفى سنة 1765 ببلاد ماصة، و الملقب قيد حياته "أمنج الظْحَ" لما شاع به من كرم و سخاء.
لذلك انتدب الأخوال رجلا استثنائيا بكل المقاييس، رجلا يليق لمثل هذه المهام الصعبة و اتفقوا معه على الخطة العريضة للمهمة و تركوا له تنفيذ هذه الخطة بالطريقة التي يراها كفيلة بتحقيق أهداف المهمة.
إنه الشخصية الفذة و الموسوعية أعمر آبّيلي، الذي اجتمع فيه من الخبرات الفنية و المواهب الذاتية ما تفرق في كثير من الناس من حوله.
كيف لا و قد خصه الله بالذكاء و القبول و الكياسة و التأني و التكتم و الصبر و سِعة الصّدر و حدّة الحيلة و المرونة في المواقف والتكيف مع الظروف الطارئة و القدرة الفائقة على الإقناع و مجاراة الحوار و استمالة الآخرين و التقرب منهم.
أما عن المهارات الفنية و المؤهلات الشخصية فحدث و لا حرج. لقد كان موسوعيا في عدد من المجالات المختلقة بل المتناقضة أحيانا كالجمع بين جودة الرقص و حسن ترتيل القرآن و بين الخبرة في رواية الحديث النبوي و الغناء بأجود النصوص مثلا، كما كانت له معرفة عميقة بكثير من فروع العلم وكفاءة عالية في استخدام هذه المعرفة بشكل سلس و فعال.
لقد كان يجسد بحق شخصية " الطّلّاڱ" التي كان المجتمع يطلقها على من كان خبيرا في مروحة واسعة من المهارات من العزف على تيدينيت إلى إمامة المساجد مرورا بفن التقليد المسمى لحمار ( براء مخففة) و التهريج و اخبيط شارة و ختانة الصبيان و تغسيل ألأموات و كل ما قد يخطر لعاقل على بال.
و لأن الأخوال كانوا على بينة من خطورة المهمة التي انتُدبوا لها أعمر آبّيلي و هي المهمة التي كانت مغامرة انتحارية بكل المقاييس لولا دهاء المُرشّح لها، فقد أمهلوه سنة كاملة و عرضوا عليه تعويضات سخية و مغرية لإنجاز المطلوب الذي كان يتمثل في تهريب ( كي لا نقول سرقة) " المزوزة" من مرابع أولاد امبارك.
و بمجرد وصول أعمر آبيلي لمضارب أولاد امبارك قدم لهم نفسه على أساس أن "طالبْ" أو "امرابط" أي فقيه حافظ لكتاب الله و أنه يبحث عن مجتمع يقيم فيه و يعلم فيه القرآن للناشئة من صغار الحي.
و نظرا لاهتمام أولاد امبارك بأهل القرآن و الحديث فقد رحب به الأمير و أصدر الأمر للخدَمِ بتوفير شروط و ظروف عمل مناسبة للفقيه الوافد. كما أمر له براتب قارٍّ يسمى "الشرط" و حث الأهالي على إلحاق صغارهم بمحظرة الفقيه الذي شاع في الحي - فيما بعد - بلقب "اطْويلبنا" ترغيبا و توددا له و ليس انتقاصا و تحقيرا لمقامه .
و بفضل مهاراته التي سبق أن عرضنا لبعضها أعلاه، تمكن أعمر آبيلي – اطْويْلبنا – في وقت قياسي من الاندماج السهل و السلس مع مختلف شرائح المجتمع لمباركي الذين رأوا فيه الفقيه المتواضع، الحليم و الواعظ المرشد الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر.
و بما أن مهمته الخفية كانت تقوم – حصرا - على الاستحواذ على المزوزة التي كانت تمثل في ذلك العصر ما تمثله لنا "الطائرة الشبح" في الوقت الراهن، فطبيعي أن تكون مدارك الخيل هي محط اهتمامه الأول و الأخير و طبيعي أن يتقرب أشد ما يكون التقرب من بيدالّي سائس المزوزة و المسؤول الوحيد عنها و القائم الفعلي على كافة شؤونها.
لذلك ذأب أعمر آبيلي على مراقبة بيدالي بدون انقطاع ليطّلع على جدول أعماله اليومي و ليعرف كل شيء عن المزوزة : وقت أكلها و شربها، و وقت نومها و صحوتها،و وقت تنظيفها و ترويضها و لهذه الغاية أيضا كان يذّخر من وجباته اليومية قسطا من اللحم يتقرب به من الكلب الشرس المكلف بحراسة المزوزة لدرجة أن هذا الأخير استأنس به و لم يعد ينبح في وجهه بل صار يخفض ذنبه و أذنيه لرؤية أعمر أبيلي ليقينه أن تحت درَّاعة "اطويلبنا" ما لذّ من لحمٍ و طاب من عظم.
أما بيدالي فلم يعد أعمر آبيلي مجرد معلم قرآن بالنسبة له بل صار رفيقه المقرب و جليسه الأنيس الذي يسامره في الليالي المقمرة كي لا يضجر أو يمل في فترة الحراسة الليلية عندما يخلد عنه الآخرون للنوم.
و هكذا و بعد ان نال ثقة و صداقة الحارس بيدالّي و ضمن سكوت الكلب عن النباح، صار أعمر آبّيلي يتحيّن أول فرصة للتفرد بالفرس لكي يمتطيها و يهرب بها أو على الأقل ليمسك بعنانها ولو لرمشة عين فيهرب بها و هو على يقين أنها عندما تنطلق فمن المستحيل اللحاق بها...
لكن هذه الفرصة لم تكن دائما متاحة، حتى عندما همَّ السائس بسقي الفرس ذات ليلة مظلمة من ليالي الصيف الحارة فاقترح عليه أعمر آبّيلي المساعدة بان يمسك عنه قلادة الفرس ريثما يُفرغ بيدالّي الماء من القربة أجابه بيدالّي بابتسامة يختلط فيها الجد بالهزل و تجمع بين البراءة و الدهاء:
[ يا ربي لا وسيتها لي ههههه ، ماهو فالي انتم ڱـابظ اڱـلادة المزوزة لين ذاهو انا ڱـابظ فم ڱـربة هههههه ذاك ماهو انا ].
كتم أعمر آبّيلي غيظه و كان بوده أن ينتفي بيدالّي من الوجود نظرا لما يشكله هذا الأخير من عائق دون تحقيق هدفه من جهة، و من جهة أخرى نظرا لمضي سنة كاملة على سكناه مع اولاد امبارك و قرب حلول الأجل المتفق بشأنه مع الأخوال.
أدرك أعمر أبيلي بفطنته و حصافة رأيه أنه يلعب بالنار عند أية محاولة فاشلة أخرى، و ضاقت به الدنيا لدرجة أنه قرر لعب كل أوراقه في الثلث الأخير من تلك الليلة عندما يشتد التعب ببيدالي فيخلد للنوم متّكلا على الكلب في حراسة المزوزة أثناء الساعة أو الساعتين الفاصلتين عن بزوغ الفجر.
قلّب أعمر آبيلي الفكرة في ذهنه عدة مرات و لما تأكد من أن بيدالى آوى إلى فراشه قرر تنفيذ خطته خصوصا أنه يأمن جانب الكلب ليقينه أنه لن ينبحه.
و هكذا فكّ أعمر آبّيلي رباط المزوزة و بقفزة واحدة تنِم عن خبرة كبيرة في الفروسية وثب على صهوة الفرس و أطلق لها العنان اعتقادا منه أنه ربح الرهان و ضمن "صفقة القرن " لكن رياح المزوزة لم تجْرِ بما كانت تشتهيه سفن أعمر آبيلي لأن الفرس تصرفت بطريقة لم تكن في حسبان الخاطف و كأنها أدركت أن من ركبها لتوه ليس فارسها المعهود، فانتفضت في مكانها ليجد أعمر آبيلي نفسه يتمرغ على أرضية المربطْ و يمَسِّد كدمات طالته من جراء وقوعه من على ظهر الفرس، بل – يالهوله و مصيبته – عندما رأى بيدالي واقفا عند رأسه و معه أعوان له شداد غلاظ لا يعصونه فيما يأمرهم و يفعلون ما يومرون.
و ما أمرهم به بيدالي ليلتها هو تكبيل الخاطف بأغلال ريثما يتم تحويله للأمير اعلي الشيخ مالك الفرس ليبتَّ في أمره.
و فعلا كان من نتيجة الجلبة و الضوضاء اللذين احدثتهما محاولة الاختطاف أن أفاق الأمير ليسأل عمّا يحدث.
عندها تم إحضار أعمر آبيلي مكتوف الأطراف لخيمة اعلي الشيخ و هو في حالة نفسية يرثى لها لما ضُبِطَ عليه من تلبس بالسرقة الموصوفة و خيانة للثقة و نكرانا للجميل.
قال الأمير و النعاس يغالبه : [ هذا شنهو ؟ هذا منهو ؟ هذا امّلو؟]
قال بيدالّي : [ هذا اطويلبنا اڱـبظناه سارڱ. كان هامّو يهرب بالمزوزة و راعيه مديور اعليه لحديد ]
قال الأمير [ أهيه ... خللو اعليه لحديد لين يصباح الصبح نعرفو أخبارو شنهي ...]
وكان من عادة أمراء أولاد امبارك أن يناموا في حراسة مشددة تلافيّا لشر الغدرة أو أي هجوم ليلي مباغت.
كما كان أيضا من العادة أن تبيت مجموعة من تيدناتن على دوزنة (اطْيابْ) تجعلها جاهزة للاستعمال في الوقت المناسب لإيقاظ الأمير على نغمات لَكَّتْرِي الذي يسمونه اصبوح أولاد العالية إكراما للأشقة الأربعة الكبار من أبناء هنون لعبيدي
بات أعمر آبيلي ليلته يحاول ابتلاع ريقه دون أن يفلح في ذلك من شدة الهم و الغم و الندم على ما ارتكبته يداه في حق من آواه و أحسن إليه .
لكن رغم ذلك كله بقي أعمر آبيلي رابط الجأش – ظاهريا على الأقل – رادّاً أمره إلى الله و هو على يقين من أن مصيره محسوم و أن حياته منتهية لا محالة بمجرد أن يستيقظ الأمير.
و بينما هو يكتوي بنارالخوف و يضرب أخماسا في أسداس في منزلة بين الأمل و اليأس و أثناء تململه في أصفاده لمس إحدى التيدناتن عن غير قصد فأدرك – و هو العارف بخبايا التدينيت – أنها في مستوية في لـڱتري فتناولها بصعوبة و شرع في ملامسة أوتارها إلى أن استقام له آنـڱري و نـڱعَ في المقام ، عندها انطلق في عزف لحن جميل لم يسبقه أحد لعزفه و لم يكن معروفا قبل ذلك و واكب عزفه بأداء صوتي يردد فيه لازمة تقول: "يانا هاه يالمشوش، يانا هاه يالمشوش!"، و في تلك الكلمات ما فيها من تعبير بليغ عن الوضع الحرج الذي انتهى إليه أعمر أبيلي و النتيجة العكسية التي وصل إليها، و فيها أيضا تعبير بليغ عن لوعة شوقه لأهله و عياله اللذين لم يكن يعرف لحد تلك الساعة هل سيعود إليهم سالما أم أنه سيدفن غريبا في الحوض الشرقي.
هذا العزف الجميل وهذا الصوت الرخيم تسببا في إيقاظ الأمير اعلي الشيخ قبل وقته المعتاد بقليل و أثار استغرابه أنه لم يعرف مصدره في البداية لأن وقت تجمهر الفنانين لإيقاظ الأمير، لم يحنْ بعد و لأنه لم يسمع هذا الأداء من قبل ولم يتعرف على الصوت و لا على مَن مِن يـكَـاون يكون هذا الذي يغنيه.
لم يفهم الأمير هذا الأمر فأخذ في الذكر و البسملة و التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم التفت إلى صاحب الغناء و خاطبه بحزم:
[ باسم الله الرحمان الرحيم ! يا هذا هل انت إنس أم جإن؟
إن كنت إنساً خبرنا عن نفسك و اذكر لنا غايتك نعطيك مسنون هذا اللحن الجميل، و إن كنت من الجن فإنا نعوذ بالله من شرك و شر قومك ! ]
استجمع أعمر آبّيلي قواه الخائرة و تنهد بعمق و قال :
[ طال عمرك أيها الأمير ... أنا لست جنيا و لا شيطانا بل أنا أعمر آبيلي الذي قدمت على جنابك منذ سنة بالضبط و اقترحت عليكم خدماتي لتعليم القرآن في حيّكم. و قصتي هي أني ....]
قاطعه الأمير قائلا :
[ دعني من قصتك الآن و اسمعني هذا اللحن و هذا الشور. بالنسبة للمقام فأنا أعرفه جيدا و أعرف أنه لكَّتري لأن مبدعيه من أهل منطقتنا الشرقية. أما الشور فلم يسبق لأهل هذه المنطقة أن عزفوه... اسمعني إياه مرتين أو ثلاث لأنه فعلا شور يستحق السماع ].
تنفس أعمر آبّيلي الصعداء لما سمع ثناء الأمير على غنائه و استرجع الأمل في الخلاص من هذا الكابوس الذي بات تحت وطأته، و تذكر أن ما عند الله قريب و أن مع العسر يسرا.
استأنف أعمر آبّيلي العزف و الغناء بتفاؤل واضح و بحماس و جودة تظهران أنه تخلص و لو جزئيا من هاجس الخوف و ضغط المصير المجهول التي أمضى ليلته تلك تحت وطأتهما .
عندما انتهى أعمر آبيلي من الغناء تخلص من تسبيحه و تمائمه و وضع تيدينيته جانبا و وضع معها امْلمْ تقليدي صغير فيه أدوات عمله ( كفقيه) من مصحف و حبر وأقلام و مسودات مختلفة للخطط التي كان يرسمها لاختطاف المزوزة، و اعترف للأمير بتفاصيل المهمة التي جاء من أجلها و ذكر له التعويضات و الامتيازات المرصودة له في حالة نجاحه في المهمة.
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه اعلي الشيخ و قال :
[ اطويلبنا" انت عايد طلّاڱ و توف ؟!،
شوف و الله يانا ألا ظهرت لي فعينيك من يوم أخطرت اعلينا. يغير ما اخترت انسيئ بيك الظن بيّ اللي ما فت اعرفت لك شي و بيك ما فيْدك كاع شي اتخسروا اعلينا . و بيّ امللي نعرف عن بعض الظن إثم ]
و أضاف الأمير:
[ أقول لك هذا و أنا عاتب عليك : بما أنك جئت من بعيد تريد الحصول على المزوزة، لماذا فرضتَ على نفسك هذا المنفى الاختياري و هذه الإقامة الجبرية بعيدا عن أهلك و عيالك لمدة سنة كاملة؟
أما كان أولى بك أن تطلب منا الفرس بمجرد وصولك؟ و نعطيك إياها مجانا....
أو لماذا لم تبادر بعزف هذا اللحن الجميل يومها ؟ فنعطيك المزوزة كمسنون مقابل هذا الشور البديع ؟
على كل حال ، خذ الفرس حلالا عليك و اعلم أننا قوم لا نصد السائل و لا نرُدُّ الطامع ].
عندها نادى الأمير اعلي الشيخ على كبير الحراس و أمره أن يعطي الفرس لأعمر آبيلي و يعطيه معها من الزاد و المؤونة ما يكفيه في رحلته عائدا لأهله فكان الأمر على ما وُصف. و انطلق أعمر آبيلي على صهوة المزوزة و الكُرَة الأرضية لا تتسع له من شدة الفرحة المزدوجة : فرحة عودته سالما و فرحة عودته غانما.
لكن المزوزة حرنَت في مكانها رافضة التقدم و لو بخطوة واحدة و أخذت تدك الأرض بحافرها الأيمن بوتيرة أسرع فأسرع، فسألهم الأمير عمّا دهاها. فلما قالوا له إنها لا تريد فراق ابنتها قال لهم:
[ فكو رباط صغيرتها و دعوها تذهب معها، حدْ اعطى المزوزة كاملة ما يحكم منْـتْـها ! اعطو المهرة لمّْها و وفّو عني أخبارها ! ]
و فعلا انطلقت الصغيرة كالرمح أمام أمها ممّا عجّل انطلاق المزوزة و أثلج صدر أعمر أبيلي.
و سرعان ما سرى الخبر في الحلة سريان النار في الهشيم و احدث بلبلة بين الأمراء الذين جاء جمعٌ منهم للاحتجاج، يتقدمهم أعمر بوجرانة ولد بوسيف ولد اللب ولد هنون لعبيدي.
قال أحدهم:
[ هل تعلم أيها الأمير أنك بتخليك عن المزوزة رجحت كفة الأخوال علينا في أي صدام مقبل؟ ألا تعلم أنك أخللت بميزان القوى بيننا معهم و أنك سلّمتهم قوة الردع الأساسية التي كانت بين أيدينا؟ ؟ هل يخفى عليك – و انت خيرُ العارفين - أن الأخوال أصلاً رأس حربة بدون المزوزة فما بالك بقوتهم و المزوزة بحوزتهم و معها بنتها؟]
استوى اعلي الشيخ في جلسته و قال لهم :
[ أنا أقدِّر قلقكم و أتفهم انشغالكم لكني اعذركم و التمس عذركم لأنكم لم تسمعوا ما عزفه اطويلبنا...فو الله لو سمعتم طريقته في عزف لكَّتري و الشور الذي ابتدعه فيه لأعطيتموه المزوزة و بنتها و زدتم على ذلك [!!!
و بعد قطعه مسافة قصيرة في طريق عودته تذكر أعمر آبيلي أنه نسي صلاة الصبح من شدة هلعه قبل أن يصدر الأمير حكما بتبرئته، فترجل عن الفرس ليصلي الصبح و وقع نظره على المزوزة و بنتها تنط يمنة و يسرة ، و أخذ يتأملهما و قد سرّه منظرهما البديع فتنهد و قال في نفسه : [ أصلي أولا و من ثمة لها مُدبرٌ حكيم ! ]
و ما أن خلص من الصلاة حتى شرع يتفحص الفرس و ابنتها من جديد فقال في نفسه:
[ انا صّ كَاع ذلْ واعد شنهو؟
حد يعطي ذا الوصف أنا كَاع أش واعد عنو ؟]
و ابتداء من تلك اللحظة اتخذ أعمر آبيلي قرار العودة للالتحاق باعلي الشيخ و المكوث عنده بصفة نهائية.
وبينما كان اعلي الشيخ مجتمعا في خيمته مع بقية الأمراء و الأعيان لمناقشة بعض أمور القبيلة، بعدما أقفلوا ملف المزوزة إلى غير رجعة، إذا بالمهرة ابنة المزوزة تمر كالسهم من أمام خيمة الاجتماع فاعتقد الجميع أن الفرس شردت بأعمر آبيلي في الخلاء و انها خلفته مرميا وراءها و سوف تعود أدراجها في أي وقت و حين .
لكن المفاجأة كان أن المزوزة ظهرت فجأة تتبختر بأناقة و فخر أمام خيمة الأمير و أعمر آبيلي على صهوتها. فقال له اعلي الشيخ :
[ و يحك أعمر آبيلي ... انت ياك ما انسيت امْلمَّك وللا شي من اشروطك إلاه؟ ياك ما اعـڱـبْ لك شي هون؟]
قال أعمر آبيلي:
[ أنا انسيتك انت .... معناها عني ما ابْـڱ شي ما انسيتو إلاه و لا ابْكَ شي ما عَـڱـبتو أنا هون....
و فايدة لخبار عني أنا لين صليت اصلاتي افتح اعلي مولانا بنّي ردّيت التخمام و ڱـلت مبيني مع راسي عن حد كيفك انت يتعامى عن زلات الناس و يعطي شي ذا كيفتو ....مانللا ماهو أنا أعمر آبّيلي اللي اتليت لاهي نحرك عنو...
و اعرف يا لَمير و اعرفو يا الجماعة عن المزّال عاطيني مولانا من لعمر لاهي انفوْتو ألا معاكم !!! ]
عندها التفت اعلي الشيخ ولد هنون امبهدل إلى قومه و قال لهم قولته المأثورة : " أياك بعد شفتو عن السترةَ ما ضمنت أَزَگالْ؟".
يوسف نجاح