تاريخ وجغرافية.. وعجائب "مملكة غانا"

اثنين, 11/30/2020 - 16:07

تاريخ إمبراطورية غانا هو أول حلقات تاريخ غرب أفريقيا فهي أول إمبراطورية قامت في السودان الغربي([1])، ولعلها أول تجربة أو أقدم ما عرف من تجارب الحكم الوطني الناجح بتلك البلاد، وقد دل ازدهارها على قدرة الإفريقيين على كثير شئونهم بأنفسهم وهذا ما حمل أحد الكتاب الغربيين المنصفين على أن يقروا بأن حضارة هذه البلاد في العصور الوسطى لم تكن دون حضارة البيض بل فاقت حضارة بعض البلاد الأوروبية([2])، وقد بلغت هذه الإمبراطورية ذروة مجدها وعظمتها في القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري(التاسع، الحادي عشر الميلادي) إذ يرجع أول نص عربي صريح عن السودان إلى المؤرخ بن عبد الحكم (188-257هـ/ 803-870م) عندما أشار السوسي الجنوبي المغرب والسودان سنة (116هـ- 734هم) فقال:"وغزا عبيد الله الفهري السوس وأرض السودان).

كانت غانا تقع بين الانحناءين المتقابلين لنهري السنغال والنيجر. وكانت تضم بشكل أساسي آوكر في الشمال والهوذ في الجنوب، وكان يطلق عليها غالباً اسم واغادو أي بلاد القطعان، والواقع أن الساحل السوداني كان يتمتع في ذلك الوقت بمناخ رطب يسمح بتربية المواشي وبالزراعة أحياناً، ومن جهة أخرى فإن موقعها عند التقاء منطقتين إحداهما صحراوية (وبالتالي مغربية) والثانية سودانية تتمتعان بمحاصيل متنوعة ومتممة لبعضها، هذا الموقع جعل هذه المنطقة بشكل طبيعي تأخذ مكانها التجاري الممتاز، وكان يسكن الهوذ وآوكر في القرن التاسع الميلادي خليطاً من الرعاة من أصل بربري وخاصة صنهاجي ومن مزارعين سود مستقرين، إضافة إلى مجموعات أخرى من الخلاسيين، وكانت أغلبية السكان تتكون من البافور (بامبارا أوماندي، توكولور، وولوف وسيرير) إضافة إلى السونغهاي في الشرق([3])، كل هذه المجموعات الجنسية كانت تعيش إذن بعضها مع بعض وبنت في هذا المكان تقاليدها، ولا يزال ما يستعمله السكان حتى اليوم في حياتهم اليومية من أدوات يشبه شبها مدهشا (اكتشف من فضاريات في آوكر وتاغان).

وقد اختلف الباحثون في تحديد ظهور غانا، فمنهم مديري أنها ظهرت في القرن الأول الميلادي، وكان ظهورها على يد جماعة من البيض([4])، ومنهم مديري أنها وجدت منذ القرن الخامس الميلادي، وتبوأت مكانة ذات شأن منذ حوالي القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي.

التسمية والموقع:

تعد إمبراطورية غانا من أقدم الإمبراطوريات الأفريقية التي قامت في السودان الغربي، ويرى بعض الباحثين بأن كلمة غانا كانت في الأصل لقبا يلقب به ملوك هذه الإمبراطورية، ثم اتسع مدلول هذا اللفظ وأصبح علماً على العاصمة وعلى الإمبراطورية.

ومعنى كلمة غانا بلغة السونتك تعني القيادة العسكرية ومن هنا أطلقت هذه الكلمة على المدينة التي كانت بها القيادة([5]).

وقد شملت إمبراطورية غانا كلها من موريتانيا والجزء الشرقي من السنغال، وبعض المناطق من دولي جامي، حيث تكونت في تلك الأقاليم الواقعة بين نهر السنغال ونهر النيجر حضارات راقية تمثلت في ظهور مملكة غانا([6]).

وفي عام 380هـ/ 990م، وصل نفوذ غانا إل مدينة أودغست، وشملت عدة ولايات وإمارات فقد ذكر المسعودي، وتحت يد ملوك غانا عدة ملوك ومماليك.

كما أشار البكري في كتابه المغربي في ذكر بلاد أفريقيا والمغرب: "أن حدود مملكة غانا الشمالية الغربية كانت تمتد حتى حدود مدينة سلي على نهر السنغال وبينها وبين مدينة غانا مسيرة عشرين يوما في عمارة السودان القبلية".

ويقول القلقشندي 821هـ/ 1418م أن بلاد غانا تقع غرب بلاد الصوصو وتجاور البحر الغربي وقاعدته أي قاعدته هذا الإقليم- مدينة غانا وهي محل سلطان بلاد غانا([7]).

الفصل الأول

ظهور إمبراطورية غانة

تعتبر إمبراطورية غانة أقدم الإمبراطوريات التي قامت بالسودان الغربي، وقد بلغت هذه الإمبراطورية ذروة مجدها وعظمتها من حوالي القرن التاسع الميلادي إلى منتصف القرن الحادي عشر([8]).

ونظراً لندرة الوثائق الخاصة بغانة، فإن المعلومات المتداولة في فجر تاريخها ليست من الدقة بحيث يمكن الاعتماد عليها، غير أن هذه المعلومات تبدأ في الوضوح والدقة منذ القرن الثامن الميلادي فصاعدا. يقول محمود كعت، عن ملوك غانة الأوائل:

"وقد بعد زمانهم ومكانهم علينا، ولا يتأتى لمؤرخ في هذا اليوم، أن يأتي بصحة شيء من أمورهم يقطع بها، ولم يتقدم لهم تاريخ فيعتمد عليه"([9]).

اشتهرت إمبراطورية غانة بهذا الاسم بالنسبة إلى عاصمتها مدينة غعانة أو غعانا ويقول جوبي عن مدينة ولاتا وهي الواردة في رحلة ابن بطوطة باسم "إيولاتن- إنها ليست سوى تحريف لكلمة "غاناتا"، كما ينطقها السود([10])، وذلك نقلا عما كذره مارمول، في القرن السابع عشر([11])، والمعروف أن مدينة ولاتا أنشأها المسلمون الجافلون من أهل غانة، على أثر هجوم الصوصو عليهم (1203) ([12]).

والراجح أن كلمة غانة، كانت أصلاً لقباً يلقب به ملوك هذه الإمبراطورية، ثم اتسع ملدلول اللفظ حتى صار علماً على العاصمة وعلى الإمبراطورية([13])([14])، والملاحظ أن هذه التسمية ليست لها أصول عربية([15])، يقول البكري "وغانة سمة لملوكهم واسم البلد أو كار"([16])،.ويقول ياقوت: "غانة كلمة أعجمية لا أعرف لها مشاركا من العربية، وهي مدينة كبيرة في جنوبي بلاد المغرب، متصلة ببلاد السودان([17])، وعن القلقشندي: أن بلاد غانة تقع "غربي صوصو، وتجاور البحر المحيط الغربي، وقاعدته- أي قاعدة هذا الإقليم- مدينة غانة، وهي محل سلطان بلاد غانة([18])، وعند المقريزي: "ومدينة غانة محل سلطان بلاد غانة"([19]).

وللمؤرخ الغيني جبريل نيان، تفسير يلتقي مع الدلالات السابقة لعاصمة "غانة" قال جبريل في كتابه عن غانة، تعني كلمة غانة، بلغة السونتك (القيادة العسكرية)، ثم صارت تعني العاصمة، مركز القيادة، ثم استمع المدلول حتى صار يطلق على الإمبراطورية([20]).

أما عن أصول سكان إمبراطورية غانة التاريخية، فهناك أساطير مختلفة حول هذه الأصول، من ذلك ما وضح في بعض وثائق قبل الهوسا، أن أهل غانة القدماء، كانوا يسمون أنفسهم التورود أو التوروث وأنهم جاءوا أصلا من وادي دجلة والفرات، أي أن لهم أصولا أشورية وبابلية، ومعنى هذا انتماؤهم إلى العنصر الذي يرجع أصل موطنه إلى منطقة جبال طوروس، ووصل ذروة مجده في التاريخ في وادي دجلة والفرات([21]).

والنسبة إلى الأصول الشرقية أمر مألوف عند كثير من شعوب السودان الأوسط والغربي، وهي الشعوب التي اشتهرت في التاريخ وكونت لها إمبراطوريات واسعة: مثل مالي: وارثة غانة، وضنغي وارثة مالي، وكذلك عند أباطرة برنو وغيرهم([22]).

والمحقق أن أهم القبائل التي تكون أغلب سكان إمبراطورية غانة في العصور الوسطى هي قبائل السوننك، وهي من فروع الماند الأساسية، أي من مجموع الشعوب أو القبائل المتكلمة بلغة الماند، وتنفرد مجموعة السونتك عن بقية فروع الماند الأخرى، بصفات جثمانية خاصة، وتقاليد اجتماعية معينة.

كان السوننك يقيمون في الصحراء، ثم تركزوا بعد ذلك على حافتها الجنوبية، فيما اشتهر باسم "الساحل" وامتزجوا بالبربر والفولانين، وهم زراع مرتبطون بالأرض، غير أن هذا لم يحل دون عملهم في التجارة، ولعل اختلاط السوننك بغيرهم من العناصر ولاسيما البربر، هو الذي غير بعض الشيء في ألوانهم، حتى أن الجلف، يطلقون على السونك المقيمين في حوض السنغال اسم: سير كول أو سرا كول وتعني هذه التسمية عند الجلف: الرجال الحمر أو الناس الحمر، مما يدل على أنهم لم يكونوا صريحيين في الصفات الزنجية النقية.

تضم مجموعة السوننك فروعاً مختلفة، اشتهرت بأسماء متنوعة، تبعاً للأماكن التي قامت بها، أو تبعا لأسماء العشائر التي برزت من بينها، أو بحسب تسمية جيرانهم لهم.

فقبائل البامبارا، وهي فروع من الماندنجو، تطلق على السوننك المقيمين في منطقة منحنى النيجر، اسم ماركا أو ماركنك ويعرف السوننك في ديا غربي ماسنه على النيجر باسم ديا كانك نسبة إلى محل إقامتهم، ويبدو أن منطقة ديا كانت مركز تجمع للسوننك، ومنه تفرقوا في شتى الجهات بالسودان الغربي، بل إن هذه التسمية"ديا كانك" أطلقت على المستعمرات التي استقروا فيها في أعالي نهر غمبيا وفي فوتا جالون.

كذلك يعرف السوننك عند المغاربة باسم "أسوانك" واشتهرت هذه التسمية على فريق من السوننك يقيم جنوبي نهر النيجر، ونسب المقيمون منهم في مدينة طوبي إليها، وهذه تسمية عربية إسلامية، انتقلت إلى غربي أفريقية، ولذلك فهم يعرفون باسم الطوباكي، وفي مدينة جنى اشتهر السوننك باسم نونو نسبة إلى اسم أول عشيرة سوننكية هاجرت إلى جني، أما المجموعات القليلة التي بقيت في الصحراء فاشتهرت باسم الأزير.

هذا، وقد استعمل الفولانيون والهوسا والصنغي، تسمية أخرى، أطلقها على السوننك وهي: أنجرا أو نقاره([23])، أو وعكري([24])([25]).

وكانت هذه المجموعة قد هاجرت فيما بعد إلى بلاد الهوسا، وتدعي أنها من أصل فارسي، واشتهرت هذه المنطقة التي أقامت فيها بهذه التسمية "ونفارة"، والمعروف أن هذا المصطلح يطلق كذلك على الماندنجو، كما عرفت به منطقة مناجم الذهب.

أما مجموعة الدياوارا، التي استقرت في منطقة كنجي وهي أصلا من منطقة ديا، فبالرغم من لغتها السوننكية، إلا أنها تختلف من الناحية التاريخية، عن بقية المجموعات السوننكية، كما ان مستعمرات هذه المجموعة المتفرقة في جيد يمابا وكيز وبافولاب وغيرها، تتكلم بلغة القبائل التي أقدمها بينها واختلطت بها.

ومن أشهر أقسام السوننك الرئيسية، كما يقوم بنجر Bingerهي:

1- السبون.

2- آل بكر.

3- السليون.

4- الديالي.

5- الساخو.

6- الكابا.

7- الوكوري.

8- النياخاتي.

9- الدياورا وهؤلاء الأخيرون: ينقسمون بدورهم إلى فرعين هما الساجوي، والدابو.

والراجح أن هذه الأقسام: عبارة عن العشائر الكبرى أو الأسر الكبيرة، التي اشتهرت بين السوننك بدليل أن الحكومة السوننكية الوطنية، كان ملوكها من آل سيسي([26]).

وهناك أقسام أخرى ثانوية أو فرعية منها: الجاساما والتابوري، والدياخابا، والفسورو والفاديجا والدافي والبيرتي، الخ([27]).

الخلفية التاريخية لمملكة غانا قبل انتشار الإسلام

أ- الأوضاع السياسية:

تتضح الأوضاع السياسية بإمبراطورية غانا قبل انتشار الإسلام من خلال نظام الحكم، فقد كان النظام مركزيا إلا في بعض المقاطعات التي كان نظام الحكم فيها وراثيا مقتصرا على أسرة واحدة تتوارث حكم المنطقة، وكانت بعض هذه المقاطعات في بعض الأحيان إن سنحت لها الفرصة تعلن استقلالها عن السلطة المركزية في العاصمة كوة مبي صالح([28]).

وأول حكومة قامت في غانا من البيض يقال أنها ترجع إلى حوالي القرن الأول الميلادي ثم صارت ذات بأس وقوة خلال القرن الرابع الميلادي([29]).

والمتواتر في بعض المصادر أن جماعة من المهاجرين من البيض الساميين جاءت من منطقة الشرق أو من شمال أفريقيا ومن برقة بصفة خاصة واستقرت في منطقة أوكار وسط مجموعة من الزنوج تتكلم لغة الماندي وأغلب هذه المجموعة السوننك، وكان نزوح هذه المجموعة أقرب إلى الهجرة السلمية، واختلطت بالوطنيين من السوننك حتى تغير لونها بطول الزمن.

ويقول السعدي 1068هـ/ 1655م عن حكام غانا الأوائل: "وهم بيضان في الأصل غير أن الشك يدور حول أصولهم الغامضة هل من اليهود، أم من البربر؟

كما ذكر السعدي في موضع آخر عن حكام غانا الأوائل: "وأول سلطان في تلك الجهات هو قيمغ، ودار إمارته غانا، وهي مدينة عظيمة في أرض باغن وقيل أن سلطتهم كانت قبل البعثة النبوية الشريفة([30]).

ورغم اختلاف الآراء فالمرجح أنهم من البربر الذين اختلطوا بالزنوج وصلة البربر بقبائل السودان قديمة، ثم إن أهل غانا أنفسهم يقولون إن أسرة بربرية كانت تحكم بلادهم منذ زمن بعيد.

وفي نهاية القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي استطاعت أسرة من وصلة البربر بقبائل السودان قديمة، ثم إن أهل غانا أنفسهم يقولون أن أسرة بربرية كانت تحكم بلادهم منذ زمن بعيد.

وفي نهاية القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي استطاعت أسرة من السوننك وهي أسرة سيسي، طرد أسرة البيض الحاكمة أو دولة كيمغ، وكانت هذه الأسرة الجديدة تتحكم في منطقة وجادوا([31]).

وقد ذكر صاحب الفتاش عن نهاية حكم الأسرة الأولى: "ثم أفنى الله ملكهم وسلطهم أراذلهم عن كبرائهم من قومهم واستئصالهم، وقتلوا جميع أولاد ملوكهم حتى بقروا بطوننسائهم ويخرجون الأجنة ويقتلونهم([32]).

والخلاصة أن لقب كيمغ أو ملك الذهب أطلق على جميع حكام غانا أرض الذهب منذ عهد الحكومة الأولى حتى اختفاء غانا من على مسرح الأحداث.

وكان الحكام الجدد أقوى من أسلافهم البيض، فضموا أدوغست([33]) (وهي عاصمة إمبراطورية إسلامية سادتها من البربر من قبيلة لمتونة) واتخذوها عاصمة وفرضوا الجزية على المغلوبين([34]).

ومن الأماكن الهامة التي خضعت لإمبراطورية غانا مدينة ولاته وأنباره وكوغة، والوكن.

وبالتالي فقد كان نفوذها واسعا بحيث شملت جميع المساحات الواقعة بين نهر النيجر والمحيط الأطلسي، وصارت أعظم قوة في السودان الغربي، وامتدت إلى الشمال وخضعت لها أغلب قبائل الصحراء الجنوبية، من الغرب إلى أعلى السنغال وحدود مملكة التكاررة، ومن الشرق إلى قرب تمبكتو([35]).

وقد استمرت أسرة السوننك في حكمها لإمبراطورية غانا حتى القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، باستثناء الفترة التي سيطر عليها المرابطون على غانا (469-480هـ/ 1076-1087م).

وفي الوقت الذي سيطر فيه السوننك على مقاليد الأمور لجأت أسرة البيض إلى تكرور وظلوا أصحاب سيادة في هذه المنطقة إلى أن هب التكارره وطرودهم من المنطقة.

ولا نعرف من ملوك الحكومة السوننكية سوى خمسة ملوك على النحو التالي:

1- بنتجوي دوكوريوكان يحكم حوالي 147هـ/ 790م.

2- تكلان: وحكم في مطلع القرن الثالث هـ- التاسع الميلادي.

3- تلوتان: وهو ابن تكلان وكان يحكم حوالي 223هـ/ 837م.

4- بسي: توفى حوالي 456هـ/ 1063م.

5- تنكامنين: وهو ابن أخت بسي وحكم الإمبراطورية حوالي 456هـ/ 1063م([36]).

ب- الأحوال الاقتصادية:

وإذا انتقلنا إلى الحديث عن الأحوال الاقتصادية في غانا فإننا نقول: أن عظمة غانا التاريخية وشهرتها وثراءها إنما يرجع أساسا إلى أرباحها التجارية الطائلة فقد كان لموقعها وعاصمتها كومبي صالح (علي حدود الصحراء الجنوبية وفي أقصى شمال منطقة الزنوج) أكبر الأثر في جلعها حلقة وصل بين الشمال والجنوب، بالإضافة إلى أن تحكمها في طرق القوافل المؤدية إلى مناجم الذهب الكبرى في جنوبها قد أفادها وجعلها غنية([37]).

وكانت إمبراطورية غانا تصدر الذهب والرقيق والجلود والعاج والكولا، والصمغ والعسل بالإضافة إلى القطن والقمح، وكانت تستورد الملح والنحاس الأحمر والفواكه المجففة والودع والمسابح وأدوات الزينة([38]).

وكانت تجارة الذهب مصدر ربح كبير لإمبراطورية غانا، حيث تحكمت في طرق المناجم بالإضافة إلى أن البلاد كانت تضم بعضا من هذه المناجم.

ولقد قام ملوك غانا وتجارها بدور الوسيط بين منتجي الذهب في الجنوب وبين العرب في الشمال، وهؤلاء بدورهم باعوه إلى أوروبا([39])، كما أن غانا وتجارها بالإضافة إلى التجار المغاربة يحصلون على الذهب من منتجيه في أعالي السنغال عن طريق ما اصطلح على تسميته بالتجارة الصامتة، فكان التجار المغاربة يأتون بسلعهم من المسابح والودعو الملح ويذهبون إلى كومبي صالح عاصمة غانا، وفيها يجدون زملائهم وعملاءهم الغانيين في انتظارهم، فيخرج الجميع نحو أعالي السنغال في أماكن معلومة، حيث يضرب التجار بطبولهم إعلاناً عن وصولهم بالبضائع، ثم يضعون سلعهم في أكوام على شاطئ النهر ويختفون وحينئذ يخرج الزنوج العراء ويضعون بجوار كلكومة ما يرونه مساويا لها من الذهب، ثم يختفون فيظهر التجار فإذا اقتنع واب قيمة الذهب حملوه وانصرفوا بعد أن يدقواط بولهم إيذانا بانتهاء التبادل، وإذا لم يقتنعوا بالذهب الموجود لم يقربوه وتركوه واختفوا مرة أخرى، فيخرج الزنوج ويزيدون كميات الذهب وتتكرر هذه العملية بين الاختفاء والظهور حتى يتم الاقتناع بين الجانبين([40]).

وقد حاول التجار مرة أن يعرفوا أشياء عن مناجم الذهب، فقضبوا على أحد الزنوج وعذبوه حتى الموت، إلا أنه لم يعترف، وتوقفت التجارة على أثر هذا الحادث ثلاث سنوات، ثم عادت مرة أخرى نظرا لشدة حاجة الزنوج إلى الملح([41]).

وأما تجارة الرقيق فقد راجت كذلك، وحصلت فيها غانا على أرباحو فيرة، فقد كانت العاصمة كومبي صالح إحدى الأسواق الرابحة لها، تمون هذه الأسواق بالعبيد عن طريق الاقتناص من الحدوزد الجنوبية([42]).

كما حصلت غانا على ثروة طائلة من الضرائب والتي كانت تجمعها الحكومة من أقاليمها المختلفة، وكانت كل هذه الأموال تصب في خزانة الدولة مما أكسبها شهرتها التجارية وازدهارها الاقتصادي.

بالإضافة إلى هذه الضرائب قرر ملك غانا فرض ضريبة قدرها دينار من الذهب على كل حمولة حمار من الملح تدخل بلاده، وديناران عن كل حمولة تخرج من بلاده وفي ذلك يقول البكري: "ولملكهم على حمار الملح دينار ذهب في إدخاله البلد، وديناران في إخراجه وله على حمل النحاس خمسة مثاقيل وعلى حمل المتاع عشرة مثاقيل([43]).

كما مارس الغانيون الزراعة والرعي فقد تحدث البكري (487هـ/ 1094م) عن اقتصاد غعنا الزراعي فقال: إن البساتين كانت تحيط بعاصمة غانا وتنتشر في كل البلاد زراعة القطن"([44]).

واهتمت مملكة غانا أيضا بالثروة الحيوانية والمتمثلة في البقر، والإبل والغنم والماعز، كما اهتموا أيضاً بالزرافات والغزلان والضباع والفيلة والأرانب والقنافد، ونظرا لقرب مملة غانا من نهر النيجر، فإنها اهتمت أيضا بالثروة الحيوانية البحرية والمتمثلة في الأسماك وفرس النهر والذي يصطاد من النهر، كما توجد لدى الغانيين الحيتان الكبيرة والصغيرة([45]).

وفي الوقت الذي تذكر فيه بعض المراجع أن مملكة غانا تكونت في بداية أمرها من عشيرة من الحدادين فإن الغنانيين اهتموا بالصناعة، وخاصة صناعة الحديد الذين صنعوام نه الحراب والرماح والخناجر، كما اهتموا أيضا بمعادن الذهب، وبالإضافة إلى ذلك كان لهم دار لصناعة المراكب الحربية على جوانب بحيرة كوري([46]).

ج- الحياة الاجتماعية:

أما عن الحياة الاجتماعية في إمبراطورية غانا فقد كان النظام فيها قبليا، تقوم أركانه الأساسية على القبيلة، وكانت هذه القبيلة تتفرع إلى عدة عشائر.

وفي هذا النظام كان الملك ال غاني يمثل رئيس القبيلة، ويساعده في ذلك مجلس يتكون من الوزراء وحكام المقاطعات، حيث إنه كان يمثل القمة في الهرم الاجتماعي([47])، وأن عامة الشعب الغاني كانوا يستقبلون ذلك الملك بالانحناء ووضع التراب على الرؤوس، وفي ذلك يقول البكري: "فإذا أدنا أهل دينه منه جثوا على ركبهم، ونثروا التراب على رؤوسهم، فتلك تحيتهم له([48])"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الخضوع التام لذلك الملك.

كما كان من عاداتهم الاجتماعية إيقاد النار للملك الوثني والذي يخرج بعد عشاء كل ليلة ليسامر مع قومه ولا يخرج حتى تجتمع عليها ألف حزمة من الحطب، ويتم إشعالها مرة واحدة، حتى تشرق البلاد كلها، ثم يجلس على منصة من الذهب الأحمر، وتقدم في هذه الأثناء الآلاف من الولائم، فيأكل الجميع إلا هو، ومتى تم الأكل يقوم ويدخل، وهم لا يقومون حتى تصبح الحزم رمادا([49])، وكثيراً ما كان الملك الغاني يتدحرج على الأرض المحروثة ليجلب لها النماء والخصب([50]).

كما كان الملك الغاني يتحلى بالأقراط والقلائد، ويلبس القبعات المطرزة، ويمشى في موكب من أبناء الأمراء، حتى يضمن ولاء المقاطعات له([51])، وإذا مات الملك قام الشعب الغاني الوثني بدفنه ومعه رجال من الذين كانوا يقومون على خدمته فضلا عن طعامه، وشرابه، وهذا يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن الحياة الآخرة تقوم على الإيمان بالبعث لذا تدفن حاجات الميت معه؛ لأنه يحتاج إليها في حياته الثانية([52]).

ومن عاداتهم الاجتماعية أيضا أنه إذا سرق أحدهم أو قتل إليه أمينهم وصب عليه من الماء قدر ما سقاه المتهم، فإن أخرجه من جوفه علم أنه برئ وهنئ بذلك، وإن لم يرمه صحت عليه الدعوة([53])، كما أنهم كانوا يقومون بتقديس الحية والتي يقدمون لها في كل عام إحدى الفتيات قربانا لها([54])، كما كانت المرأة في المجتمع الغاني الوثني سلعة تباع لزوجها، ولهذا كانت تشكل لأبيها وأسرتها قيمة تجارية، كما عرف في غانا تعدد الزوجات والنساء الجميلات كن من نصيب الطبقة الغنية، وعرف في غانا أيضا قبل انتشار الإسلام الطلاق والزنا، والمضاجعة لأهل الدعارة من الأمور السائدة والمألوفة في المجتمع الغاني([55]).

وكان ملوك غانا يدينون بالوثنية والتي تمثلت في المجوسية وعبادة الأصنام والمتمثلة في تقديس الأشجار الضخمة، والحيات، والحيوانات، وكان أهل ديانتهم يقيمون حول القصر الملكي حيث القباب والقبور، والتي يحرسها حرس خاص لا يستطيع أحد دخولها من الغرباء، كما كانت معابدهم عبارة عن أبنية بسيطة مربعة ذات أبراج اسطوانية مزينة بالصور([56]).

وهكذا تكونت في هذه المنطقة الهامة ما بين نهر السنغال ونهر النيجر من غرب أفريقيا أول مملكة في السودان الغربي، فلم يحن القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي حتى اكتملت معالمها، وأخذ الإسلام في الانتشار فيها عن طريق التجار والدعاة والمرابطين.

الإسلام في إمبراطورية غانة:

أوردنا الحديث عن إمبراطورية غانة هنا قبل الإسلام، وليس معنى هذا أن الإسلام لم يدخل هذه الإمبراطورية، وإنما لأن الحقبة الإسلامية بها كانت قصيرة إذا قيست بالقرون التي كانت الوثنية طابع للبلاد خلالها، على أن الإسلام قد وجد في هذه الإمبراطورية منذ عهد مبكر، ولكن المسلمين كانوا أقلية فلم يصبح الإسلام طابع الدولة إلا منذ فتح المرابطين لها، ومن أجل هذا كان وضع هذه الإمبراطورية هنا أنسب وأدق، ولكن ينبغي أن نتبع دخول الإسلام وانتشاره بغانة حتى تتضح لنا الصورة اتضاحا كاملا.

ولعل مطلع الإسلام في غانة يرجع إلى هذه البعثة أو الجيش الذي يذكر البكري([57])، أن الأمويين قد أنقذوه إلى غانة في صدر الإسلام، والبكري يقرر أن أحفاد هؤلاء صاروا على دين أهل غانة، ولكنهم لا يتزاوجون مع السكان الأصليين، وهذه الرواية تفيد أن قلة ليست كثيرة بقيت بالبلاد من هذا الجيش، وأن ذريتها بعد عدة أجيال تأثرت بمعتقدات القومن وإن بقيت محافظة على بعض الامتيازات العنصرية، ويوضح Panikarأمر هذه الحملة فيقول إن بني أمية عندما أحكموا قبضتهم على مراكش الغربية شنوا هجوما على غانة فيما بين عامي 734 و750م (116-133هـ) لأسباب سياسية، وكانت هذه الحملة المراكشية الأولى ضد دولة مندول غرب إفريقية، يبدو أن الحملة لم تصادف نجاحا وكان أحفاد الجنود يعيشون في هذه الأرض ويعرفون بالهنسيهين([58]).

وجاء الإسلام بعد ذلك عن طريق التجار وهجرات العرب والبربر إلى هذه المناطق على نح ما شرحنا من قبل، حتى أصبح الإسلام موجودا في كل قرية وكل مدينة، وظل يتكاثر من يوم إلى يوم.

 

وكانت مملكة أودغست من قبل مسلمة، تسكنها قبائل السوننكي وحكامها من البيض من قبيلة لمتونه. وكانت هذه الممالكة مجاورة لإمبراطورية غانة، وكان من بين الدولتين صلات تجارية يشير لها ابن حوقل([59])، وتذكر الباحثة F.Lugard([60])، أن ملك أودغست تيبوتان كان شديد الحماس لنشر الإسلام ليس بين أهل أودغسته فحسب بل بين الزنوج المجاورين لمملكته من ناحية الجنوب ويمكننا أن نتصور أن الفترة التي كانت أودغست خاضعة خلالها لملوك غانة كانت فرصة لمزيد من انتشار الإسلام، على نحون ما تكرر في التاريخ من أن المغلوب إذا كان أعلى حضارة من الغالب أضفى عليه حضارته، فانتصر المغلوب فكريا وإن كان قد هزم عسكريا.

ونتيجة لكل هذه العوامل أصبح الإسلام واسع الانتشار في إمبراطورية غانة، وأصبح الإمبراطور يعتمد على المسلمين لأنهم أكثر كفاءة وأعلى مستوى من سواهم يقول البكري: وكان تراجمه الملك من المسلمين وكذلك صاحب بيت ماله وأكثر وزرائه([61])، بل كان الملك وهو وثني يؤثر المسلمين([62])، وكثر المسلمون بإمبراطورية غانة فأصبحت هناك بلاد خاصة بهم مثل مدينة يرسني التي يتحدث عنها البكري([63])، كما أصبحت العاصمة شطرين: شطر للمسلمين وشطر للملك وقومه من غير المسلمين، ويرينا وصف المؤرخين حضارة الإسلام متمثلة في الفرق الكبير بين شطري المدينة أو بين مدينة المسلمين ومدينة الثونيين، يقول البكري: ومدينة غانة مدينتان سهليتان أحدهما المدينة التي يسكنها المسلمون وهي مدينة كبيرة فيها اثنا عشر مسجدا أحداها يجمعون فيه، ولها الأئمة والمؤذنون والراتبون، وفيها فقهاء حملة العلم وحواليها آبار عذبة منها يشربون وعليها يعتملون الخضروات، ومدينة الملكم علي ستة أميال من هذه وتسمى بالغابة، والمساكن بين المدينتين متصلة، ومبانيهم بالحجارة وخشب السنط، وللملك قصر وقباب، وقد أحاط بذلك كله حائط كالسور وفي مدينة الملك مسجد يصلي فيه مني فد عليه من المسلمين على مقربة من مجلس حكم الملك، وحول مدينة الملك قباب وغابات يسكن فيها سحرتهم، وهم الذين يقيمون دينهم وفيها دكا كبرهم وقبورهم ملوكهم، ولتلك الغابات حرس، ولا يمكن لأحد دخولها ولا معرفة ما فيها([64]).

وهكذا عاش الإسلام والوثنية جنبا إلى جنب في غانة خلال ذلك العهد، بيد أن الإسلام ضمن لأتباعه حياة أفضل، فلقد كانت أكثر حاشية الملك كما قلنا من المسلمين وكان أكثر جنوده من المسلمين كذلك، وهذا جعل القوة الإسلامية تسير قدما نحو السيطرة على السلطة، وقد كان من جلال الإسلام أن ترفع بأتباعه عن الركوع أمام الملك، وهو ما كان يفعله غير المسلمين، ويقول البكري، إن أهل دين الملك كانوا إذا دنوا منه جثوا على ركبهم، ونثروا التراب على رؤوسهم فتلك تحيتهم له، وأما المسلمون فإنما كان سلامهم عليه تصفيقا باليدين([65])، ولعل ذلك دفع بالكثير من صفوف الوثنيين إلى صفوف المسمين لينعموا بهذه المكانة في قصور الملك.

وهكذا كان الإسلام يزحف بخطى سريعة في إمبراطورية غانة فلما جاء فتح المرابطين اندفعت الجموح نحو الإسلام وأصبح الإسلام طابع هذه الإمبراطورية، ويقول القلقشندي في ذلك "وكان أهمها أسلموا في أول الفتح([66])، فلما استعاد السوننكي نفوذهم كان الملوك من المسلمين وأصبحت الإمبراطورية إمبراطورية إسلامية خالصة، ويتحدث بعض المؤرخين عن 44 ملكا لغانة عاش نصفهم قبل زمن النبي محمد وعاش النصف الآخر بعد ذلك، وقد بقي بعض هؤلاء على الوثنية، حتى اقتحم المرابطون إمبراطورية غانة فأصبح الملوك الأخيرون مسلمين([67]).

ولم يكتف ملك غانة المسلمون بإسلامهم، بل راحوا يوثقون صلاتهم بالخلافة ببغداد وراح بعضهم يدعي أنه من نسل الحسن بن علي - عليه السلام -([68])، ويذكر الإدريسي أن ملك غانة ينتسب إلى صالح بن علي - عليه السلام -([69])، ويذكر الإدريسي أن ملك غانة ينتسب إلى صالح بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ويخطب له لكنه تحت طاعة أمير المؤمنين العباسي([70]).

حضارة غانة:

نعود إلى البكري أهم مصدر لتاريخ إمبراطورية غانة لتقتبس منه لمحات عن حضارة غانة، نضيفها إلى ما سبق أن كتبناه عن حضارة هذه الإمبراطورية.

يتحدث البكري عن ملوك غانة فيرى أن ابن ا لأخت كان هو الذي في الملك بعد خاله، وكان لا يلبس المحيط من أهل دين الملك غيره، وغير ولي عهده، ويلبس سائر الناس ملاحق القطن والحرير والديباج على قدر أحوالهم، وهم أجمع يحلقون لحاهم ونساؤهم يلحقن شعورهن وملكهم يتحلى بحلي السناء في العتق والذراعين، ويجعل على رأسه الطراطير المذاهبة، عليها عمائم القطن الرفيعة، وهو يجلس للناس في المظالم في قبة باهرة، ويكون حول القبة أفراس بثياب مهبة، وغلمان يحملون السيوف المذهبة، وعن يمين الملك أولاد ملوك الأقاليم، وحوله الوزراء يجلسون على الأرض.

وكان إذا مات ملكهم (أي قبل الإسلام) عقدوا له قبة عظيمة من خشب الساج، ووضعوها في موضع قبره، وأدخلوا جثمان الملك في تلك القبة، ووضعوا معه حلية وسلاحه، وآنيته التي كان يستعملها وأدخلوا فيها الأطعمة والأشربة، وأدخلوا معه خدمة ثم يغلقون القبة على هذا كله.

وذلك غانة جيش عظيم يذكر البكري أنه يصل إلى مائتي ألف، منهم رماة أزيد من أربعين ألفا([71]).

ويصف الإدريسي ملك غانة المسلم بأن من سيرته قربه من الناس وجد له فيهم، وكان يفد له من يحس بالظلم، فلا يعود إلا وقد أنصفه الملك([72]).

تلك كانت لمحة سريعة عن أولى الإمبراطوريات الإسلامية بالسودان الغربي فيما يذكره التاريخ، وقد بدأت وثنية ولم يطل عهدها الوثني، ثم انبثق فيها الإسلام، فتركت في التاريخ ذكرا عطرا ومجدا مخلدا.