لا يمكن إدانة الصالون لمجرد استقباله للسفير الأمريكي وبعض سفراء الدول الكبرى المعتمدين في بلادنا والذين تربطنا ببلدانهم علاقات وطيدة ومصالح مشتركة هذا الأمر بالعكس هو دليل على مصداقية الصالون وليس العكس . الجاهل هو من لا يعرف أن الأمريكيين أدرى بما يجري في الصالون وفي غيره
منا نحن . وبالمثل لا يجوز اتهام النخبة التي كانت حاضرة في الندوة السياسية التي نظمها الصالون السبت الماضي في ولائها لوطنها والعمالة للأجنبي لأنها بكل بساطة شديدة التنوع في قناعاتها الفكرية وانتماءاتها السياسية والحزبية.
الأمريكيون مختلفون لكنهم في مواجهة العدو الخارجي والآخر بصفة عامة متحدون , نحن أيضا مختلفون لكننا ينبغي أن نكون متحدين في مواجهة العدو الخارجي وكل من يهدد أمننا ووحدة شعبنا. السفراء الذين شاركوا في الندوة جاءوا لعرض السياسات الخارجية لبلدانهم لجمهور متميز ونخبة فكرية وسياسية ذات انتماءات فكرية وسياسية وأيديولوجية مختلفة قلما تجتمع في زمان واحد وفي مكان واحد . وبالطبع يخطئ من يظن أن مثل هؤلاء لا يعرفون ما يقولون وما يفعلون.
ومثلما جاءوا هم لعرض سياساتهم الخارجية ورؤيتهم للأمور وللقضايا المشتركة جئنا نحن أيضا من منظور غير رسمي للدفاع عن شعوبنا ودولنا وثقافتنا ضد الفهم الخاطئ : والخلاصة هي أن كل طرف كان يحمل رسائل يريد أن يوصلها للطرف الآخر بعيدا عن واجب التحفظ وثقل المسؤولية الإدارية والسياسية التي قد تمنع كلانا من نفض كنانته.
لن أدافع عن الصالون لأن للبيت ربا يحميه لكن مهمة هذا الصالون الثقافي كما عرفته منذ سنتين أو يزيد تقريبا هي بالفعل خلق فضاء من التلاقي للمثقفين لعرض أفكارهم ورؤاهم وإلا فأين سيلتقي اليساري بالإسلامي والقومي باللبرالي والموالي للنظام بالمعارض معارضة راديكالية هؤلاء كانوا جميعا هناك في ذلك اليوم في تناغم وانسجام وأتذكر أنني مازحت إحدى القياديات في المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة قائلا : لقد عرفت الآن أن كل ما كنتم تقولونه ليس صحيحا ؟ فردت علي مازحة بقولها وهل كنت تظن أننا سنقول ذلك هنا.
حتى ولو صح أن للصالون أبعادا أمنية فهذا لا يقدح فيه أبدا ولا يخلو أي مركز من المراكز المرموقة على الصعيد العالمي من أن تكون له أدوار أمنية بالمفهوم الواسع والإيجابي للكلمة نحن جميعا مدعوون للدفاع عن أمن بلادنا وتحصينها من الأجندات الأجنبية ولعل ما يقوم به الصالون في هذه اللقاءات هو سد لثغرة توجد لدينا ولدى الكثير من المجتمعات حديثة العهد بالديمقراطية تتعلق بمشاركة المجتمع المدني (منظمات وهيئات خيرية ومراكز بحثية وصالونات ثقافية وشخصيات مستقلة وغيرها) في الحياة العامة ومساهمته في صنع السياسات ورسم الاستراتيجيات وقد كان هناك حضور مميز لرؤساء عدد من مراكز البحوث الاستراتيجية أذكر منهما اثنين هما من أبرز المراكز البحثية المهتمة بالقضايا الاستراتيجية في بلادنا أحدهما تابع للدولة والآخر يرأسه قيادي بارز في المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة المعارض.
وعليه فإن مثل هذه اللقاءات مهمة للجانبين : لتفهم الانتليجانسيا الوطنية ما يدور فى تلك البلدان وطريقة صنع القرار فيها وموقفها من القضايا الكبرى التي تهم كوكبنا : الإرهاب والتطرف العنيف والجريمة العابرة للحدود والهجرة السرية والاهتمامات الأمنية المشتركة بصفة عامة لأن أمن الدول والتجمعات الإقليمية أصبح مرتبطا ارتباطا وثيقا في تلك المسائل على وجه الخصوص كما أن قضايا البيئة مثل المناخ والتلوث والتصحر أصبحت شيئا فشيئا من الأمور المشتركة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة فعندما تلغى المصانع الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية بأبخرتها في الجو وهي الدولة الكائنة في أقصى "الشمال" يكون رد فعلها المدوي والعاصف واضحا في بلد يوجد في أقصى "الجنوب" مثل بانغلادش في شكل فيضانات وأعاصير مدمرة وهو ما يطرح بشكل مباشر مسألة العدالة على الصعيد العالمي! مثل هذه الأسئلة ترغب دول عظمى مثل الولايات المتحدة واليابان في معرفة مواقف النخب في بلدان العالم الثالث منها للنظر في إمكانية تعديل سياساتها وتحقيق أكبر قدر من العدالة على مستوى الكوكب. فعندما يرفع مثقفنا صوته بأن ما تقوم به أمريكا تجاه الفلسطينيين ليس عادلا، وأن مصالح أمريكا في المنطقة العربية وما يمكن لها أن تستفيده من تعاونها مع 22 دولة أفضل لها بكثير من مصالحها في إسرائيل ، وعندما يقول سفير أكبر دولة في العالم بأن السواد الأعظم من الأمريكيين لا يعرف شيئا عن الإسلام ! هل كل هذه الأمور عديمة الفائدة ؟ ألا يستدعي ذلك لدينا شكلا معينا من ردود الفعل كعرب ومسلمين ؟ هم (كدول وأنظمة) يعرفون الكثير عنا ولا حاجة لهم أصلا إلى هذه الصالونات لمعرفة أي شيء عن أي شيء أما نحن فلا نكاد نعرف عنهم شيئا لأننا لا نمتلك ما يمتلكونه من أجهزة استخباراتية هائلة تجند الرؤساء والوزراء والسفراء والجنرالات وشركات الاتصال وهلم جرا ولهم من التقنية المتقدمة ما يسمح لهم باستخلاص المعلومات التي يحتاجونها دون أن ينفقوا دولارا واحدا إذن على الجميع أن يطمئن أنهم إذا كانوا يريدون المعلومات فهذه ليست الطريقة المثلى للحصول عليها بالنسبة إليهم هم يريدون أفكارا ومعلومات صحيحة وموثوقا من نخبة شديدة التنوع علها تساعدهم في فهم المجتمعات والدول التي يعملون فيها بشكل صحيح بعيدا عن واجب التحفظ الذي قد يمنعنا نحن كمسؤولين سياسيين ويمنعهم هم كدبلوماسيين من التحدث بشكل رسمي ولكن ذلك لا يعني غياب المسؤولية والصدق . في العالم الديمقراطي هناك حرية مطلقة للتعبير لكن في كل مرة على الشخص أن يفصل بين صفته الرسمية وبين صفته الشخصية لكن واجب التحفظ عندنا طغى على حرية الرأي والتعبير التي هي حق يكفله الدستور ولا تكتمل أصلا الديمقراطية إلا به..
إن الاستغراق في نظرية المؤامرة يجعل البعض يعتقد أن كل أمريكي معاد للإسلام وأن كل إسباني معاد للهجرة وأن كل تركي لا يحب العرب وأن كل ياباني يستحيل أن يتحدث العربية بطلاقة مثلنا كاشفا عن أسرار "المعجزة اليابانية" ومع ذلك تبين في جلسة صالون الولي ولد محمودا الماضية أن كل تلك المزاعم غير صحيحة هذه مشكلة علينا جميعا أن نفكر فيها بهدوء. وإذا كان الأمريكيون العاديون لا يعرفون الفرق بين موريتانيا والمغرب ولا بين السنغال وغينيا ولا بين الصومال وإثيوبيا ولا بين الأرجنتين والبيرو.. لأنهم يعرفون تلك البلدان فقط بالجهات : "غرب إفريقيا" "شرق إفريقيا" "أمريكا الوسطى" "أمريكا الجنوبية"وليس بمعيار الحدود أو السيادة، فإن هذا الأمر لا يمكن تفسيره بـ "جهل المواطن الأمريكي" بل بأرجحية المساهمة الأمريكية في الإنتاج العالمي المادي والرمزي فما هو مقدار مساهمتنا نحن كدول وكتجمعات إقليمية ؟ّ! وما الذي نعرفه نحن عن المجتمعات "البدائية" والأصناف الحيوانية الدنيا ؟
وعليه فإن استطاعت نخبتنا انتزاع حيز لبلدنا وثقافتنا في ذاكرة الأمريكي العادي وفي ذاكرة الياباني وفي الذاكرة العالمية بوجه عام فهذا شيء لن يكون عديم الفائدة على أمننا ومصالحنا القومية وهذا في تقديرنا هو جزء من رسالة الصالون.
بقلم/ الدكتور البكاي زلد عبد المالك