كانت خديجة رضي الله عنها من أحب خلق الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلها مصاحبا لرحيل عمه أبو طالب، الذي كان، رغم كفره، يمنع عنه أذى قريش، حتى سمّي العام الذي توفيت فيه بعام الحزن، فأشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقائه وحيدا فأرسلوا إليه الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون تقترح عليه الزواج مجددًا فدار بينهما الحوار التالي كما نقله ابن كثير في "البداية والنهاية"، ونشرته (مصراوي):
فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوَّج؟
فقال: "ومَنْ؟"
قالت: إنْ شئتَ بكرًا، وإنْ شئتَ ثيِّبًا.
فقال: "ومَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟"
قالت: أمَّا البكر فابنة أحبِّ خلق الله إليك، عائشة رضي الله عنها، وأما الثيِّب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال: "فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ".
فذهبت بالفعل السيدة خولة -رضي الله عنها- إلى السيدة سودة، فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة.
قالت: وما ذاك؟
قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك إليه.
قالت: وَدِدْتُ، ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له. وكان شيخًا كبيرًا قد أدركه السنُّ قد تخلَّف عن الحجِّ، فدخلت عليه، فحيَّته بتحية الجاهليَّة، فقال: مَنْ هذه؟
قال: فما شأنك؟
قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.
فقال: كفء كريم، ما تقول صاحبتك؟
قالت: تحبُّ ذلك.
قال: ادعيها إليَّ. فدعتها.
قال: أيْ بُنَيَّة، إنَّ هذه تزعم أنَّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبكِ، وهو كفء كريم، أتحبِّين أنْ أزوِّجَكِ به؟
قالت: نعم.
قال: ادعيه لي.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوَّجها إيَّاه.
لكن على الرغم من أن الشائع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج من سودة بنت زمعة أولًا إلا أن ابن كثير رجح في "البداية والنهاية" أنه تزوج عائشة أولًا، حيث يقول ابن كثير أن دخول النبي على سودة كان بمكة، أما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية من الهجرة، لكنه يقول إن عقده على عائشة كان متقدمًا على تزوجه بسودة بنت زمعة رضي الله عنها.
فمن هي سودة بنت زمعة؟ وكيف كان حالها مع عائشة؟
تزوجت سودة بنت زمعة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمها السكران بن عمرو بن عبد شمس وهو اخو سهيل بن عمرو، وكان السكران من ضمن من هاجروا إلى الحبشة في الهجرة الثانية، ومات حين عودته بأهله إلى مكة، وكانت عمر سودة حين تزوجها النبي خمسة وخمسين عامًا، وكان لها من زوجها خمسة أو ستة أبناء من الذكور.
كانت السيدة سودة بنت زمعة ترغب في إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم، وخشت عندما أسنت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فتحرم أن تبعث مع نساءه، فوهبت يومها للسيدة عائشة رضي الله عنها ابتغاءًا لرضا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خَشِيَتْ سَوْدَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: اجْعَلْ يَوْمِي لِعَائِشَةَ، فَفَعَلَ".
أما عن علاقة عائشة بها، فروي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا -أي جلدها- مِنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، مِنِ امْرَأَةٍ فِيهَا حِدَّةٌ"؛ وتفسر لنا ذلك دار الإفتاء في موقعها الرسمي بأن السيدة عائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها، فلم ترد أن تعيبها بذلك بل كانت تصفها بقوة النفس وهي الحدة.
بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم رفضت سودة أن تخرج لتحج وتعتمر مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: "قد حججت واعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنا أقعد في بيتي كما أمرني الله". وظلت بالفعل في بيتها حتى توفيت في شوال سنة أربع وخمسين هجريًا بالمدينة، وكان ذلك خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعد أن أوصت ببيتها لعائشة.
دنيا الوطن