"الكلمة التي القاها البروفسور محمدو محمدن أميّن في حفل تأبين المرحوم دياغانا عثمان في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية سنة (2002)"
تعرفت على الفقيد البروفيسور دياغانا عثمان مطلع السنة الجامعية 1986- 1987 وأنا حينها أخطو خطواتي الأولى في دروب مهنة التدريس الجامعي بما فيها من نتوؤات ومنعرجات صعبة.
وطوال هذه السنوات الست عشرة الحافلة بالمتغيرات على صعيد العالم والبلد والجامعة وسلك أساتذة التعليم العالي، ظل المرحوم دياغانا عثمان - كما عرفته أول مرة - مثال الأستاذ الجامعي الجدير بهذا الإسم:
تواضع لا حدود له، بساطة تكاد تبلغ حد السذاجة، نكران ذات يوشك أن يصل إلا ّمحاء، استقلالية صارمة وتفان لا متناٍه في البحث العلمي والواجبات المهنية، انضباط في المواعيد ودأب على التدريس واستقامة في التقويم.
كنا معشر أساتذة الجامعة - أو بعضنا على الأقل- نتبارى ونتصارع بحثا عن تعيين في مسؤولية ما ولو كانت رئاسة قسم أو مصلحة.
وللحصول على المنصب / الأمل قد لا يتردد بعضنا –رغم الألقاب العلمية التي نحملها- في اللجوء إلى أكثر المؤسسات رجعية ورثاثة: القبيلة الجهة وحتى الطائفة
العرقية!!
وكان الفقيد البروفيسور دياغانا عثمان من طينة أخرى من الأساتذة المثقفين مترفعا عن فتات الموائد متعاليا على استجداء الكراسي.
وربما كان الوحيد من بيننا الذي تجرأ على الاستقالة من رئاسة القسم لأن مسطرة إدارية آمن بها وسعى في سبيلها قد تم خرقها!
ربطتني بالمرحوم دياغانا عثمان عالقة خاصة وكنت أنظر إليه نظرة إعجاب وتقدير وأعتبره تجسيدا لما ينبغي أن يكون عليه الأستاذ الجامعي علما وخلقا، ومع ذلك لم نكن نلتقي في الجامعة إلا في حالات نادرة لأن الفقيد كان يأتيها فقط ليقدم درسا أو ليحضر اجتماعا أو ليشارك في نشاط علمي ما.
لم يكن من المتحلقين حول مكتب الرئيس أو العميد يتدافعون بالمناكب، ولا من الباحثين عن المحاسب للفوز بمغنم مما يجود به أهل الفضل في هذا الزمن الرديء..إلخ..
مكانان فقط يندر أن تمر بأحدهما دون أن تصادف المرحوم البروفيسور دياغانا عثمان، هما دار البريد حيث يتردد على صندوقه بحثا عن الرسائل والجرائد والمجلات والكتب، والمركز الثقافي الفرنسي حيث يطالع ويبحث بشغف نادر.
كان احترامه للتخصص صارما. أتذكر مرة - أثناء دورة امتحانات في الجامعة سنة 2000 جمعني الإشراف عليها مع المرحوم – أنني أهديته منشورات مخبر الدراسات والبحوث التاريخية وطلبت منه أن يشرفنا بقبول عضوية اللجنة العلمية لمجلة "مصادر" التي يصدرها هذا المخبر فاعتذر موضحا أنه غير مختص في التاريخ ولا يستطيع بالتالي أن يحكم على المواد المقدمة للنشر في مجلة تاريخية.
فرحمة الله على هذا "الورع" العلمي النادر.
ومرة أخرى عرضت عليه - وبدافع من الرغبة في أن يستفيد مخبر الدراسات والبحوث التاريخية من ميزاته العلمية الفذة- عضوية هيئة الإشراف على "معلمة موريتانيا" المعجم البيوغرافي الذي كان يعده المخبر آنذاك فقبل الاقتراح هذه المرة لأن بعض محاور هذا المعجم تتقاطع مع اهتماماته العلمية.
وما تزال اللقاءات الأخيرة التي جمعتني بالفقيد ماثلة في مخيلتي.
وأعتقد أن السياق يستدعي أن أعرض منها لحادثتين (دون تعليق) لعلهما تنيران بعض الجوانب في شخصية الرجل.
أولاهما كانت في مكتبه حيث زرته، باقتراح من السيد العميد، رفقة الباحث المغربي أحمد الشكري.
وتناول الحديث من بين ما تناول أوجه التعاون الممكنة مع معهد الدراسات الإفريقية بجامعة محمد الخامس.
وقد لفت نظري أن المرحوم رغم كثرة الانشغالات وطول العهد بالرباط ما يزال يتذكر بالتفصيل أسماء الأساتذة المغربيين وتخصصاتهم وحتى كتبهم وحتى كتبهم..
وفي نهاية هذا اللقاء قدمنا له التعازي في فاجعة فقدان الأستاذ جمال ولد الحسن فأبدى تأثرا بالغا واستغرق في ما يشبه الذهول مرددا عبارة "إنها لخسارة جسيمة".
وبعد أن أوصلنا الضيف المغربي إلى الفندق، طلب مني المرحوم أن أرافقه إلى أهل جمال ولد الحسن لتقديم التعازي، فوافقت طبعا غير أنني فوجئت بالأستاذ وهو في حالة تردد محدثا نفسه حديثا أنهاه بمخاطبتي:
-"لا يا محمدو، لا أستطيع الآن رؤية عائشة" (أخت المرحوم جمال وزميلة دياغانا عثمان في قسم اللغة والأدب الفرنسيين بالجامعة). ومسح دمعة سالت على خديه ثم أردف قائلا:
-"هيا! لا بد من تقديم التعازي لأسرة الفقيد الآن".
توجهنا رفقة سائقه إلى حي صوكوجيم غير أننا وجدنا كافة أفراد أسرة أهل الحسن ـبمن فيهم عائشة- قد ذهبوا إلى التاكلالت.
عندها أجهش المرحوم البروفيسور دياغانا عثمان بالبكاء فلم أتمالك نفسي وبكيت مثلما لم أبك أي صديق لأن فاجعة فقدان جمال تبيح البكاء وتستحق ذرف الدموع.
أما الحادثة الثانية فكانت بمناسبة حفل اختتام السنة الجامعية الماضية حيث حضر الأستاذ المرحوم مع غيره من الأساتذة والمدعوين.
وبعد الخطب الرسمية "هاجمنا" نحن معشر الأساتذة المرطبات المعدة وبدأنا نبتلعها حسب التقاليد المعمول بها في هذه المناسبات.
فرأيت البروفيسور دياغانا عثمان ينسحب إلى الوراء مؤثرا غيره أو مشفقا عليه!! واتجهت إليه، فأمسك بيدي مقترحا علي أن نخرج لأنه كان يبحث عني لغرض مستعجل.
ابتعدنا قليلا عن ضوضاء الموسيقى المختلطة برنين زجاجات وعلب الأشربة وحركات المضغ والابتلاع المتسارعة على غير انتظام.
قال لي: " أنا الآن اعد التقرير السنوي عن نشاط القسم، وأود أن تذكرني باسم وعنوان الباحث المغربي الذي عقدنا معه اجتماعا في مكتبي يوم أخبرتموني بوفاة الفقيد جمال لأن هول النبأ أذهلني فلم آخذ عنوان ذلك الأستاذ".
أعطيته المعلومات التي يريد وأنا مرتاح لأنني اكتشفت مع البروفيسور دياغانا عثمان أن هنالك من يفكر في التقارير والمشاريع والبرامج والتعاون خدمة للبحث العلمي.
ولم أكن اتصور أن عيني بعدما جادتا به من دمع على رفيق الدرب جمال ولد الحسن كان عليهما، وفي غضون أيام قليلة، أن تذرفا مزيدا من الدموع على رفيق درب آخر هو دياغانا عثمان.
إن الرزء عظيم والمصيبة أعظم لكن الأعمار بيد الله لحكمة يمدها ولحكمة يقصرها، و"إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (صدق الله العظيم).
لقد فقدنا في شخص المرحوم دياغانا عثمان الصديق الوفي والإنسان النبيل والباحث الصبور والمثقف المتسامي، فتعزية خالصة إلى أسرة الفقيد، إلى الجامعة، إلى البحث العلمي وإلى أخلاقيات الأستاذ الجامعي.
وختاما نتضرع إلى المولى عز وجل أن يسكن الفقيد فسيح جناته وأن يلهم ذويه وأصدقاءه الصبر والسلوان راجين أن نكون من " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (صدق الله العظيم).