خلال مشاركتي في فعاليات تأسيس مقاطعة "انبيكت-لحواش"، نهاية يونيو 2010، تلقيت دعوة للعشاء من طرف قريب لي، السيد يحفظو ولد أهل المختار-أطال الله عمره-، أحد وجهاء المنطقة ؛ بعد تلبية الدعوة الكريمة، اتفقت مع مضيفي على توقيت ومكان الانطلاقة نحو المخيم الذي كان يبعد حوالي عشرة كيلومترات من "الكراع الازرگ"، البئر التقليدي الذي تقرر أن تؤسس عاصمة المقاطعة الجديدة على مرمى حجر منه، بعد أن تعذر، في آخر لحظة، تشييدها قرب بئر "انبيكه" ("انبيكت-لحواش")، رغم صدور مرسوم وقتها بهذا الخصوص.
كان من المتوقع أن يكون الشيخ الطالب مصطف ولد إزيدنا بيه -رحمه الله تعالى- الضيف الرئيسي لهذه الدعوة، إلا أنه، وبعد زيارة المخيم، قرر البقاء "للتأكد من ضيافة جيدة لمرتادي المخيم" ؛ لم يقدر المشرفون بشكل جيد حجم الحضور، فآثر الشيخ البقاء لتصحيح الأمور. طبعا أعجبني تواضع وكرم الرجل، إلا أنني شعرت بمستوى من خيبة الأمل، إذ كنت أود الإنصات إلى "حكيم اظهر"، في أجواء خاصة وهادئة.
شغل مضيفنا الكرسي الأمامي، إلى جانب السائق، وجلست رفقة أحد الأقارب في الخلف. ضج محرك السيارة وما هي إلا ثوان حتى بدأت المركبة تمخر هضبة "اظهر"، في غياب تام لأي أثر على الأرض، لكن بتوجيه دقيق من مضيفنا الذي كان يعدل المسار أحيانا، بثقة مالك المكان. نتوءات رملية مكسوة عشبا في كل الاتجاهات تتخللها حفر عارية ؛ مشهد رتيب إلا من كثبان نادرة وهيئات شجرية مظلمة أكثر ندرة تنجح أضواء السيارة، من وقت لآخر، في مباغتتها : سرحٌ أو بشامٌ في الغالب. لقد لجأت أكثر من مرة إلى التحديق في القبة السماوية بنجومها الوضاءة وسكينتها الأزلية، هروبا من "أرضية" الواقع...
كانت السيارة تشكو محركا ومفاصل ميكانيكية، من وعورة الطريق ولم تفلح "مخففات الصدمات" من نجدة أعمدة الركاب الفقرية... على الرغم من ذلك كله، ظل مضيفنا الشجاع يتحفنا بقصص شيقة عن المنطقة وتاريخها، عندما كانت وطنا حصريا لمن استطاع قهرها...
في تقديري، أننا كنا نسير عشر كيلومترات معدلا للساعة، وكان السائق ماهرا جدا من حيث اختيار السرعة الأقل هزا للمركبة وإذا للركاب.
رغم وجود نار كبيرة أمام خيمة مضيفنا، دخلنا الحي دون سابق إنذار من الناحية الشرقية، حوالي الحادية عشر ليلا، وهو وقت متأخر جدا بالنسبة للحياة في البادية.
نزلت غير آسف من السيارة وتبعت مضيفي داخل الخيمة التي تم استبدال أثاثها التقليدي بأثاث أرضي كثيف ومريح، يسع عشرة ضيوف على أقل تقدير. جلست حيث طُلب مني أن أجلس ؛ كنت أرقب مشهد النار المتوهجة في هذا الوقت المتأخر من ليلة شتوية معتمة، وحركة عمال الضيافة والتململ، من وقت لآخر، لنوق أنيخت غير بعيد من الخيمة في الناحية الغربية. كما كان يصلني، من وقت لآخر، شكاوي حَوار أو حمَل أو سخلة، بحثا، لاشك، عن أم ترضع وتقي لسع البرد الليلي.
بدأت مراسم الضيافة بالحليب، حيث قدم مضيفنا ثلاث آنية خشبية جميلة، في كل إناء نوع من الحليب الطازج : البقر، الإبل، الغنم. وتقديرا له، قررت "تجريب" العينات الثلاثة، بدءا بحليب البقر، وذلك وفاء لتقاليد أهل "كوش"... بعدها، قرر مضيفنا تحضير الشاي بيده الكريمة، رغم وجود من بمقدوره القيام بهذه المهمة نيابة عنه. خلال حديثه الطيب، اكتشفت أن مضيفنا يحفظ كتاب الله العزيز وله ثقافة فقهية وأدبية جيدة. أنصتت إلى حديثه الشيق والهادئ، وهو يتعامل بمهارة مع آنية الشاي، ويصدر، من وقت لآخر، أوامر مقتضبة إلى أفراد من محيطه الأسري. ظلت النار توفر إضاءة مريحة للخيمة من الداخل و"تساعد" غطاء التدفئة المحيط بها من الشرق والشمال، على المحافظة على درجة حرارة مناسبة من حولنا. كان حديث مضيفنا متنوعا، نوازل فقهية ومواضيع خاصة، كما تطرق إلى تاريخ الآبار في المنطقة وإلى المعضلة اللوجستية لحفرها بعمق تجاوز على الدوام سبعين مترا، في غياب التقنيات المعاصرة. لأول مرة، سمعت منه كلمة "المنجاع"، وهو طريق كان الأهالي يشقونه قديما، باستعمال جمال قوية تجر خلفها أشجارا كبيرة، فيتم القضاء على الأعشاب المرتفعة على مسافة طويلة، تساعد في ربط المضارب في اظهر بأقرب المناطق الرطبة في "الحوظ"، ستون كيلومترا على أقل تقدير.
بعد حوالي ثلاثة أرباع الساعة، جيء بأطباق الطعام، فكان مضيفنا يمسك بها ويضعها أمامنا ويشرح لنا ماهيتها : لحم مشوي، كسكس باللحم، "عيش" بصلصة تقليدية... حاولت جاهدا تذوق كل الأطباق رغم الشهية المحدودة، فكان مضيفنا يشجعني على تناول هذا الطعام أو ذاك، طبقا لسلوك في صميم كرم الضيافة الموريتانية التقليدية. كانت الأطباق طبيعية ولذيذة كلها، رغم غياب الخضراوات المعهودة اليوم.
بعدها، وضع مضيفنا إناء كبيرا مليئا بحليب الإبل بالقرب مني، وملأ منه إناء صغيرا وطلب مني الشراب منه ؛ وتعويضا للتقصير في تناول الأطعمة السالفة، قررت بذل جهد استهلاكي للحليب البارد واللذيذ. لم تكن الفكرة جيدة لمن أنهكه التعب البدني وكان يتوق إلى النوم لساعتين أو ثلاثة، قبل صلاة الفجر...
بعد انتهاء طقوس الضيافة الغذائية، حوالي الواحدة صباحا، خاطبني مضيفنا : "أطلب منك أن ترافقني".
فأجبته : "بكل سرور"، رغم أنني وجدت صعوبة غير مفتعلة في الإقلاع عن الفراش!
اتجه مضيفنا صوب قطيع الإبل وأنا خلفه بقليل احتراما لفارق السن، فلمس بقدمه الأيمن كفل ناقة بيضاء لم تتأخر في الاعتدال واقفة، رغم إحكام عقال على طرفها الأمامي الأيمن. انبرى صغيرها الذي لم يبلغ، في تقديري، من العمر أسبوعا كاملا، محاولا الرضاعة ؛ قال لي مضيفنا بصوت هادئ، وكأنه لا يعي أهمية ما يفعل : « هذه لك!". أجبت بسرعة وفي أشد الحرج :"لا، لا، أنا لا أحب الماشية، رغم طفولتي البدوية!". خطا مضيفنا خطوتين أو ثلاثة وأوقف ناقة حمراء، حاول حوارها ذو الأشهر الرضاعة رغم حماية ضرع أمه، فكرر :"هذه لك!". زاد إحراجي أضعافا وأجبته : "أنا صادق معكم، فأنا لا أحب الماشية، وإذا أردتم أكتفي بالناقة البيضاء!". واصل مضيفنا خطاه إلى اليسار، وأوقف ناقة كبيرة الحجم ترضع حوارا ذا سنة تقريبا، ثم قال لي : "هذه لك!". بدأت أتوسل إليه بالتراجع عن هذا كله، مؤكدا أنني لا أحب الماشية، وأنه إذا كان على أحدنا أن يهدي شيئا للآخر فهو أنا...
حمدت الله تعالى، عندما لاحظت أن مضيفنا بدأ حركة العودة إلى الخيمة، إلا أنه بمجرد تجاوز آخر ناقة، خاطبني قائلا : " بقي الفحل، هل تريده أبيض (أمينگ) أو أحمر؟"، فأجبت بسرعة : "شكرا لكم، لاداعي له!". ألح مضيفنا، وحسما للجدل، قلت له : "أحمر!"، وذلك انسجاما مع ثقافتي "الحوظية". ظننت أن أركان "الحلم" قد انتهت، إلا أن مضيفنا، خاطبني قائلا : "بقي شيء أخير..."، طربت لسماع "أخير"، لأنني كنت، رغم سعادتي بفصول هذه "التجربة" النادرة، في أمس الحاجة إلى الخلود إلى النوم. خاطبني مضيفنا قائلا : "ما هو الوسم (الشاهد) الذي تريد؟". إنهاء للمداولات، أجبته بسرعة : "وسم عمودي على الفخذ الأيمن، مع إشارة صغيرة في الوسط إلى اليمين". ضحك مضيفي قليلا، ثم قال : "هذه إماءة واضحة إلى معلمي (طلبتي) في "أحمد ينجه"". بعدها حاولت، بصعوبة حقيقية، استحضار الطريق إلى النوم...
(يتواصل إن شاء الله)
الوزير السابق إسلكو احمد إزيدبيه