تنص المادة 93 من الدستور الموريتاني على أنه: (لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن افعاله اثناء ممارسته سلطاته الا في حالة الخيانة العظمى.
لا يتهم رئيس الجمهورية إلا من طرف الجمعية الوطنية، التي تبت بتصويت عن طريق الاقتراع العلني وبالأغلبية المطلقة لأعضائها، وتحاكمه في هذه الحالة محكمة العدل السامية.
الوزير الاول واعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا عن تصرفاتهم خلال تأدية وظائفهم والتي تكيف على انها جرائم او جنح وقت ارتكابها وتطبق عليهم الاجراءات المحددة اعلاه في حالة التآمر على امن الدولة وكذلك على شركائهم، وفي الحالات المحددة في هذه الفقرة تكون محكمة العدل السامية مقيدة بتحديد الجرائم او الجنح وكذا تحديد العقوبات المنصوص عليها في القوانين الجنائية النافذة وقت وقوع تلك الافعال.).
وقد استثيرت هذه المادة بموجب الإجراءات المتخذة ضد الرئيس السابق أمام القضاء العادي، وهي تثير لدينا سبع ملاحظات:
1-يفهم من ظاهر نص هذه المادة أن موضوعها هو: (أفعال الرئيس أثناء ممارسة سلطاته)، وأن الحكم الذي أعطته المادة لها هو: (عدم المسؤولية عنها إلا في حالة الخيانة العظمى)، وقد حددت المادة سلطة اتهام الرئيس بأنها البرلمان حصرا، ثم جاءت المادة بأعضاء الحكومة لتمنحهم حكما مغايرا بقولها إنهم مسؤولون جنائيا عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تأدية مهامهم، مع إبقاء الاختصاص في محاكمتهم لمحكمة العدل السامية.
2-مبدأ عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يقوم بها أثناء ممارسته سلطاته، هو مبدأ جمهوري تقليدي معروف ومشهور، ويرد عليه استثناءان فقط هما: اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وحالة الخيانة العظمى، وقد اعتمده دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة في مادته 68 بنفس النص الحرفي الذي اعتمدته المادة 93 من الدستور الموريتاني الحالي.
3-يراد من عدم المسؤولية عن بعض الأفعال حماية بعض الوظائف والمهن حتى يتأتى لأصحابها أن يؤدوا مهامهم بحرية دون ضغط أو تخويف، وتسمى الحصانة الموضوعية، لأنها تحصن موضوعا معينا من أن يكون محلا للمتابعة، كأفعال الرئيس أثناء مأموريته طبقا للمادة 93 من الدستور، وكما يدلي به نواب البرلمان من رأي أو تصويت أثناء أداء مهامهم طبقا للمادة 50 من الدستور، وكما يباشره المحامون من إجراءات لصالح موكليهم أو ما يبدونه من آراء أثناء ممارستهم مهنتهم أو بمناسبتها طبقا للمادة 44 من قانون المحاماة.
4-من الخطأ الخلط بين الحصانة الموضوعية التي هي مانع من موانع المسؤولية حيث تمنع المساءلة عن أفعال معينة، وبين الحصانة الإجرائية التي تمنع إجراءات المتابعة خلال فترة معينة أو دون القيام بإجراءات خاصة معينة، غير أنها لا تكون مانعا من المسؤولية.
فلا يكون الأشخاص مسؤولون عن الأفعال التي يرتكبونها أثناء سريان الحصانة الموضوعية إذ هي كالأفعال المرتكبة أثناء الجنون أو أثناء الإكراه فكما لا يمكن أن يسأل المجنون عن الأفعال التي ارتكبها أثناء الجنون إذا عقل وزال جنونه، ولا يمكن أن يسأل المكره عن الأفعال التي ارتكبها تحت الاكراه إذا زال اكراهه، كذلك لا يمكن أن يسأل المحصن موضوعيا عن الأفعال التي ارتكبها أثناء مأموريته إذا انتهت مأموريته أو ترك وظيفته، فكل الأفعال التي وقعت أثناء قيام مانع المسؤولية لا تمكن المساءلة عنها سواء كان المانع حصانة موضوعية أو جنونا أو إكراها.
بينما يكون الأشخاص مسؤولين عن الأفعال التي يرتكبونها أثناء الحصانة الإجرائية، لكن لا تتم متابعتهم عليها إلا بعد زوال الحصانة إما برفعها وإما بانتهاء الوظيفة التي حصلت بموجبها الحصانة، ومثاله أن نواب البرلمان مسؤولون جنائيا عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء مأمورياتهم، لكن لا تمكن متابعتهم عليها إلا بإذن من البرلمان أثناء دوراته أو بإذن من مكتبه خارج دوراته (المادة 50 من الدستور) فإذا فقد البرلماني وظيفته جازت متابعته على تلك الأفعال دون هذه الاجراءات، ومثله كذلك أن القضاة ورؤساء الدوائر الإدارية مسؤولون جنائيا عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء ممارستهم لسلطاتهم، لكن لا تمكن متابعتهم عليها إلا بعد أن يوجه وكيل الجمهورية طلبا إلى المحكمة العليا، التي تبت في رفع الحصانة وتعين المحكمة المكلفة بالتحقيق والحكم (المادة 613 من قانون الإجراءات الجنائية)، فإذا فقد القاضي وظيفته جازت متابعته دون هذه الإجراءات.
5-رغم أن الأصل في الشريعة الإسلامية خضوع الجميع للمساءلة بغض النظر عن مراكزهم، إلا أن الفقهاء أصلوا للحصانة الدبلوماسية بحديث أبي وائل عن عبد الله ابن مسعود المتضمن أن السنة عدم قتل الرسل مهما قالوا من كفر، وقد أورد ابن جزيء المالكي في القوانين أن: (من دخل سفارة لم يفتقر إلى أمان بل ذلك القصد يؤمنه)، وورد مثله عن العز ابن عبد السلام وغيرهم.
وقد قرر بعض الفقهاء والباحثين المعاصرين أن الحصانة وإن كانت تمنح قديما للرسل والمبعوثين دون غيرهم إلا أن سبب ذلك هو الحاجة إلى حمايتهم بحيث يتمكنون من أداء مهامهم دون خوف أو قلق، وهي ذات العلة التي أحدثها تشابك العلاقات بين السلطات في الدولة الحديثة، في ظل بروز مفاهيم قانونية جديدة مثل فصل السلطات، وفي ظل الحاجة إلى منع سطوة احدى السلطات على الأخرى، ومع بروز مفهوم سيادة الدولة ورمزية رجالها، أصبح من اللازم توسيع نطاق الحصانة والأمان ليشمل بعض الوظائف حماية لمصلحة الأمة.
6-تطور مبدأ عدم مسؤولية رئيس الجمهورية عن الأفعال التي يقوم بها أثناء ممارسته سلطاته في الدستور الفرنسي بعد نقاش قانوني وشد وجذب بين أنصار إطلاق المبدأ حماية لمؤسسة رئيس الجمهورية من تغول البرلمان، وأنصار تقليصه تعزيزا لعمومية المساءلة، فجاء تعديل 19 يونيو 2001 الذي أقر مسؤولية الرئيس جنائيا عن الأفعال المرتكبة أثناء المأمورية والتي لا ترتبط بممارسة مهامه، على أن لا تتم المتابعة إلا بقرار من لجنة خاصة.
ثم جاء تعديل 23 فبراير 2007 الذي أكد على الحصانة التقليدية المانعة من المسؤولية التي يتمتع بها رئيس الجمهورية لكنه حصرها في الأفعال التي ارتكبها أثناء مأموريته وكان لها ارتباط بمهامه، بينما نص على حصانة إجرائية مؤقتة فيما يتعلق بالأفعال غير المرتبطة بمهامه، تنتهي بانقضاء شهر بعد انتهاء المأمورية الرئاسية.
هذين التعديلين اللذين لحقا بدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة عامي 2001 و2007 نتيجة لنقاش محلي، لم يطالا الدستور الموريتاني الذي أبقى على المادة 93 بصيغتها الواردة في الدستور الفرنسي سنة 1958 محتفظة بمبدأ عدم مسؤولية رئيس الجمهورية، ولا يمكن بحال من الأحوال تطبيق قانون أو دستور أجنبي، وترك الدستور والقانون الوطني، بحجة أنه لا يحقق غاياتنا اليوم، لأن الحفاظ على عمومية القاعدة القانونية وتجريدها والزاميتها وقدسية القواعد الدستورية منها أهم وأنفع وأدوم من مجرد تحقيق غايات آنية.
7-تمكن مناقشة فلسفة المادة 93 من الدستور، والنظر في مدى ملاءمتها لطبيعة الحكم في بلادنا، والاستفادة من تعديلي 2001 و 2007 للمادة 68 من الدستور الفرنسي التي كانت مطابقة للمادة 93 من الدستور الموريتاني، واستخلاص تعديل مناسب للمادة 93 على ضوء كل ذلك، يصوت عليه الشعب الموريتاني ويقره، ليكون قاعدة دستورية نافذة وملزمة، غير أنها لا تسري بأثر رجعي، وفي انتظار ذلك لا مندوحة لنا عن تطبيق الدستور الحالي النافذ.
عضو هيئة الدفاع عن رئيس الجمهورية السابق:
ذ محمد المامي ولد مولاي اعل