لا تخطئ العين وميض نار قلق، تتسارع وتيرته، تحت ركامٍ كثيفٍ من مظالم التاريخ وثاراته الكامنة، يذكيه ميزان التغابن المختل، وإكراهات الواقع ومنغصاته، ويجد بيئته المناسبة في نهج اللامبالاة الذي يترسمه اللاحق عن السابق من أولى الأمر، في هذه البلاد؛ ويوشك هذا الوميض المأزوم أن يتحول إلى ضرام، مهددا مستقبل التعايش السلمي الطوعي الآمن، بين مكونات مجتمع تزداد قابليته للاضمحلال، في وجه تحديات، لا يملك لها دفعا؛
نتحدث عن نذر فتنة اجتماعية، ذات أوجه متعددة؛ عنصرية فئوية، وطبقية تراتبية، وقبلية جهوية، وهي نذر باتت اليوم تعرب عن نفسها بلا خجل أو حرج، يستحثها تراث كامل، ما يزال ماثلا، من الاستعباد والازدراء والتهميش، وتحكم الطبائع البدوية التي يتعاظم أبناؤها بالآباء، ويضفون وهم القداسة والدناسة، على هذه السلالة أو تلك؛ وتستمرئون العطالة والكسل، ويحتقرون الإبداع والمبدعين، وينظرون إلى المهن الشريفة وأصحابها، نظرة استعلائية؛
إنها المعايير والموازين المختلة ذاتها، التي ألفتها مجتمعات الجاهلية الأولى، فهي من الضلالات التي نزل الكتاب العزيز، وبعث الرسول الكريم، لاجتثاثها وإخراج الناس من ظلماتها وضلالاتها إلى نور الحق والهدى، وقد اعتبرت قيما للشر والأشرار، فكنستها الرسالة الإسلامية، وابتنت على أنقاضها، قيما عليا ومثلا راقية، احتفت بالجنس البشري، وبالعلم والعمل والحرف والمهن والإبداع والاختراع، قيما مضافة لكل من أتقنها.
ولا تزال الألقاب والصفات المرتبطة بالمهنة والحرفة، تمتدح حملتها وتخلد ذكرهم العطر حيثما ورد؛ والذي يصغي اليوم إلى السير العطرة لأئمتنا وعلمائنا وقضاتنا ونوابغنا ونبلائنا، بل وقادتنا وأمرائنا، ممن عطروا مجد أمتنا التاريخي، لن تخطئ أذنه ألقابَ الجزار والنجار والقصاب والعسال والغزال والزيات والدباغ والحداد والصباغ والسمان والباقلاني؛ والقائمة تطول وتطول... بلا نهاية؛
في منتبذنا القصي هذا، ومع مكابدة البداوة وشظف عيشها، وشدة مؤونتها، وانقطاع مدد مراكز الإشعاع عن بلاد السائبة، وحالة الطوارئ الأمنية المستمرة فيها؛ فارقتنا قيم الحضارة الإنسانية، وشغلتنا عبية الجاهلية وتعاظمها بالآباء، واختلاق الأمجاد والأنساب والأحساب، ثم طال الأمد على الناس فقست قلوبهم، وساد بينهم وهم القداسة لغير المقدس، ليكون الدنس نصيب سلالات أخر.
وإن تعجب، فعجب أن أجيالا تعاقبت في ظل الدولة الحديثة، منذ أكثر من نصف قرن، وهي تعض بالنواجذ على تلك الأوهام والظنون وما ينبني عليها من مسلكيات عتيقة، يضفي عليها المتشبثون بها وهم المجد التاريخي؛ وقد بات الأمر لعبا بالنار، وإيقادا لشرارة الفتنة، ما لم يهب شعبنا بمختلف مكوناته وأجياله، لوأد نذر السوء التي تظلل واقعنا المأزوم، وتهدد مستقبلنا المجهول.
نريد أن نرى هبة وطنية حقيقية، في مواجهة ما تنذر به المقدمات المقلقة، من نتائج مرعبة؛ نعم، مواجهة، ولكن بأدوات الحق الناعم، والعدل والإحسان، تسعى لوضع أسس سليمة وصلبة، لميثاق مواطنة شامل، يتجاوز الأنساق التقليدية الظالمة، ويقدم مشروع تسوية عادلة للمظالم المؤرقة، على أن تتم صياغته بالتراضي، بعيدا عن أي إكراه، ويكون بمثابة عقد ملزم بقوة القانون للدولة الوطنية وشعبها، بمختلف أطرافه، وبكل تبايناته؛
إن عملا وطنيا كبيرا مثل هذا، يجب أن يقوم على قرار وطني مسبوق بحوار اجتماعي جاد وجامع، ثم تتبناه الدولة وتتقدم مسيرة تنفيذه، ممثلة في سلطاتها التشريعية والقضائية، ثم في قطاعاتها الحيوية: الداخلية والعدالة والشئون الإسلامية والاجتماعية والتعليم والثقافة، على ألا يستثني العمل الوطني الكبير أحدا، فينتظم الأحزاب السياسية، وجمعيات العلماء والأئمة ومنتدياتهم، والمنظمات الحقوقية، وهيئات المجتمع المدني، وكل المجموعة الوطنية؛
وإذا ما أريد لعمل وطني كهذا أن ينجح ويؤتي ثمراته، فيجب أن تدشنه وقفة إنصاف وطنية علنية، تعيد الاعتبار لضحايا المظالم التاريخية من شعبنا، وخاصة المظالم ذات الأثر العميق في الحالة الاجتماعية الراهنة، وغير المرضية لبعض الفئات والشرائح والعناصر والأسر؛ ومن نافلة القول التأكيد على أن أبرز تلك المظالم كان استعباد الإنسان بأي سبب من الأسباب، أو استغلاله بأي شكل من الأشكال، أو احتقاره والانتقاص من قيمته كإنسان؛