أعرف رجلين محترمين أكن لهما شخصيا كثيرا من الإعجاب والتقدير، رأيتهما مرة وهما يتزاحمان تزاحم الحجيج لاستلام الحجر الأسود، لتأخذهما عدسة التلفزة مع مسؤول سابق كان إذ ذاك له الكلمة النافذة في نواكشوط فيها يحيي ويميت، ويجيع ويقيت، ويتزلف له الناس بما عندهم من بضاعة، حسب طاقتهم وتوفيق الله لهم، فمنهم من يسمي عليه أبناءه ومنهم من يأتيه بالدراهم والدنانير ومنهم من يأتيه بالسعاية والوشاية، كل ينفق مما عنده.
لقد نجحا فيما راما، فقد أرتناهما التلفزة ليلتئذ بقربه حتى لكأنه يسر إليهما سرا خطيرا أو يناجيهما نجوى لها ما بعدها، إلا أن الأقدار شاءت أنه بعد أسبوع من تلك اللقطة انقلبت الأوضاع وتبدلت القيم وصار ذلك الزعيم رجيما، وما كان بختا وسعدا صار نحسا وشؤما وما كان مدحا صار ذما، ولا أدري ما كان شعور الرجلين إلا أني أحسبهما قالا في قرارة نفسيهما: لو كنا نعلم الغيب لما كان هذا. لا ضير عليهما فمصلحة الأرشيف هي خير من يؤتمن على الأسرار. أما أنا فأقول: ما كان ضرهما لو أجملا في الطلب من أول يوم فأحبا زعيمهما هونا ما عسى أن يكون غير زعيم يوما ما، ما ضرهما لو كانا كعامة الناس ما جاءهما من التكرمة عفوا قبلاه، وما تعسر عليهما منها لم يتكلفاه، هذا هو السلوك الوحيد الذي يمكن أن يدوم عليه ابن آدم. وأعرف رجلا ينسب إلى علماء الدين - وهو منهم- كانت له لحية تزيد وتنقص، تنقص كلما عين في أحد المناصب السامية. تقلم من طرفيها وتشذب من أعلاها وأسفلها ويومها ذاك يرى الدين كله رخصا لا تكليف فيه، وتنفتح أمامه أبواب المصلحة المرسلة تكاد تبيح له كل شيء، ناهيك عن فقه الضرورات والسياسات الشرعية وغير ذلك من حقول التوسعة. أما زيادة اللحية فإنه يكون بمجرد صرفه عن تلك المناصب وعزله عنها، هنالك تعرض اللحية وتطول وتسبكر، ويومئذ تفتح أبواب جهنم السبعة فيقسم هو عليها هذه الأمة المرحومة لكل باب منها جزء مقسوم، الولاة في النار، والشعراء ومن على شاكلتهم في النار، والنساء في النار، لا ينجو من النار إلا ثلة قليلة من العلماء. ما ضره لو كان ترك لحيته جزء من شخصيته المحترمة لا تتأثر بالعوامل، من لحى أهل العلم يبجلها الخاصة والعامة ليست مؤشرا للتفاؤل ولا للتنشاؤم لا تنقص لولاية ولا تزيد لعزل؟ وأعرف رجالا أوتوا ملكة استخراج القرابات والأواصر القديمة، كلما نجم مسؤول له نفوذ أو نفع في شيء من هذه الدنيا، إذا بهم يستخرجون من خبايا التاريخ قرابة قريبة تربطهم به ما كانت معروفة من قبل ولا متحدثا عنها فيروجونها ويبهرجونها حتى كأنما رواها مالك عن نافع عن ابن عمر أو روتها سلسلة الذهب كل عن أبيه عن جده، ولا يربكهم قليلا ولا كثيرا كون تلك القرابة بادي الرأي من النوع الذي لا يصدقه العقل ولا القرينة كقرابة الفيل من ابن آوى والضب من النون. ومن الطريف أن هذه القرابة المستحدثة تضمحل باضمحلال نفوذ من استحدثت له، فلا يذكرها ذاكر ولا يزورها زائر، بل تصبح كالطلول الدوارس صم صداها وعفى رسمها. ما كان ضرهم - لو كانوا صادقين- لو وصلوا رحمهم قبل طلوع نجم "قريبهم" واستمروا على صلتها بعد أفول نجمه، لو فعلوا ذلك لكان أحفظ لكرامتهم وأبقى لماء وجههم بين الناس. وأعرف أشخاصا مولعين بتهنئة المعينين في الوظائف يأتونهم في بيوتهم على غير سابق معرفة يحضرون مراسيم الشراب والطعام التي تقام بتلك المناسبة وكأنهم من أهل الدار. وإذا كانت الأخرى لا ترى لهم أثرا ولا عثيرا. سئل أحد ظرفائهم لم لا يزور فلانا بعد سقوطه من منصبه فقال لا أحب الآفلين... وعهدك بالرجل وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويجيب من دعاه باسمه، فإذا بسم له الحظ فعين في شيء من هذه المناصب الدنيوية، لبس جلد النمر وتنكر لأحبابه وأصدقائه وقال: " إن المال مال أبي وجدي، والجاه جاه استحققته بسعيي وجدي، لا يدخلنها اليوم علي شريف ولا مسكين فالحقوق كثيرة وما عندنا وقت لهذا...". وما كان ضره - لا أم له- لو خفض جناحه للمؤمنين وتواضع للمساكين وتعرف لمن كان يألفه في المنزل الخشين فلعله يرجع أسفل سافلين بعد يوم أو يومين. هذه أمثلة حية من الحياة المعاشة ذكرتها لك أرمي من ورائها إلى بيان أن كرامة الإنسان هي في تحليه بنسبة من السلوك ثابتة لا تتأثر بعوامل "البيئة" يمكن أن نطلق عليها اصطلاحا "نسبة الكرامة" أو "أقل ما يجزئ من السلوك الثابت".