لي منزل به محلات تجارية يؤجر أحدها تاجر يمارس به نشاطا تجاريا، اكتشفت خلال السنة الماضية أنه راكم متأخرات من استهلاك الكهرباء بقيمة 600.000 أوقية، ونظرا لعجزه عن التسديد، أو عدم رغبته في ذلك لوجود بدائل تمكنه من ديمومة خدمة الكهرباء، استخدم الطرق الملتوية للشركة
وقام بفسخ الاشتراك الأول، وأبرم اشتراكا آخر واصل نشاطه التجاري عن طريقه مستبدلا العداد الأول بعداد جديد.
اتجهت لمركز شركة الكهرباء بالمقاطعة مستفسرا عن الموضوع، وقلت لرئيس المركز إن الأمر لا يهمني إذا كانت تلك المتأخرات بين الشركة وزبونها وهو من يتحمل تسديدها، وما يهمني هو فقط أن لا تكون تلك المتأخرات باسم المحل التجاري إذا ما غادر المؤجر مستقبلا، فقال لي ما تخافه هو ما سيحصل، فمتأخرات الكهرباء باقية على عنوان بيتك وستكون أنت المطالب بتسديدها إذا ترك المؤجر المحل، لكن جرت العادة ـ يقول ـ بأن تلغي الشركة تلك المتأخرات عند بداية كل سنة، فخرجت من عنده على ذلك الأساس.
بداية السنة الحالية خرج أحد المؤجرين من أحد المحلات وجاء تاجر آخر يريد تأجيره، ولأنه يريد اشتراكا كهربائيا خاصا به، ذهب لشركة الكهرباء لإنشاء ذلك الاشتراك فقالت له الشركة إن المنزل لا زال مطالبا بمتأخرات بقيمة 600.000 أوقية وبدون تسديدها لا يمكن إنشاء اشتراك جديد على عنوان المنزل.
اتجهت ثانية إلى مركز الشركة، فوجدت رئيسه قد تم تحويله وحل محله رئيس آخر، وكان شابا في منتهى البساطة والجدية والاستعداد لخدمة الزبناء والمراجعين، حيث تجده في مكاتب عماله وممرات إدارته يستقبل الزبناء ويستمع لمشاكلهم أكثر مما تجده في مكتبه.. طرحت عليه الموضوع، وقلت له إن سلفه في المركز قال لي عندما جئته في السنة الماضية إن الشركة عادة ما تقوم بإلغاء المتأخرات التي عجزت عن تحصيلها عند بداية كل سنة، فقال لي فعلا لقد كان الوضع كذلك لكن تعميما جاءنا بإلغاء ذلك الإجراء، وألزمنا بمتابعة المتأخرات إلى أن يسددها المطالبون بها، أما بالنسبة لك فسأتابع قضيتك إلى أن يسدد صاحبك المتأخرات المطالب بها وخذ عندك رقم هاتفي للاتصال عند الحاجة..
ودعته وقبل الخروج من عنده قلت له إنني أستغرب من سياسة الشركة في هذا المجال، وتغاضيها عن هذا النوع من الممارسات التي تؤرق كاهل المواطنين والشركة معا، فكم من صاحب منزل أو محل تجاري يؤجر بيته أو محله لمؤجر يراكم عليه متأخرات من الكهرباء بعشرات أو مئات الآلاف من الأوقية، ويغادر تاركا تلك المبالغ التي لا قبل لصاحب البيت أو المحل بتسديدها ولا تمكنه الشكاية من المؤجر لدى السلطات ولا متابعته قضائيا! قال لي لا تظنن أنك وحدك المستغرب أو الواعي لهذا الأمر، فنحن أيضا نعيه والشركة نفسها أعدت حزمة قوانين تمكنها من متابعة مرتكبي هذا النوع من الممارسات قضائيا وقدمتها لمجلس الوزراء وصادق عليها، وخلال حديثه فهمت منه أن هذه القوانين تم تعطيلها، وتوقعت أن من عطلها هو مجلس إدارة أو مدير أو وزير جديد.. إلا أن مفاجأتي كانت كبيرة عندما قال إن البرلمان هو من رفض المصادقة على تلك القوانين، وقال أنظر مثلا للأشخاص الذين يصعدون أعمدة الكهرباء لإعادة الخدمة الكهربائية للزبناء، والذين لا يتوقف ضرر تصرفهم على سرقة الكهرباء للزبناء دون إذن الشركة فقط، وإنما يتسببون أيضا في أعطاب للشبكة هي المسؤولة عن الجزء الكبير من الاضطرابات الكهربائية في أحياء المدينة، وتقولون إن الشركة تتغاضى عنهم.. في حين أن الشركة لا تتغاضى عنهم ومتضررة من تصرفاتهم، لكنها لا تمتلك أي سند قانوني لإحالتهم للعدالة، والتصدي لهذه التصرفات شملته ) la plateforme ) التي أعدتها الشركة وصادق عليها مجلس الوزراء لكن البرلمان رفضها!
لم أسأله ما إذا كان البرلمان رفض هذه النقطة بالذات، أي تمكين الشركة من متابعة المخالفين والمتحايلين عليها قضائيا، أم أنه رفضها في جملة قوانين أخرى تتعلق بسير عمل الشركة في نواح أخرى.. وإذا صح أن البرلمان فعلا قد رفض تشريعا ينصف المواطنين المتضررين بل وشركة الكهرباء نفسها من هذه المخالفات المؤرقة للمواطنين والمبددة لموارد الشركة، فإنه بذلك قد قصر في أداء واجبه، خصوصا أنه دأب على مساءلة الوزراء عن التقصير في مجالات تدخل قطاعاتهم، فهل يحق لنا مساءلته عن هذا التقصير، أم أنه لا يُسأل عما يفعل والوزراء يُسألون؟!
نعم، لقد اختفت الكثير من مظاهر الفساد الذي كان يتبختر بيننا " مرفوع الهامة " يتحدانا ويدفع أصابعه في أنوفنا، ولا نملك إزاءه سوى " لمحاين " وعض الشفاه، كما لمسنا انعكاس انحسار مسلكيات الفساد في اعتماد الدولة على مواردها الذاتية في إقامة الكثير من المنشآت والورشات التنموية إما بشكل كلي أو بمساهمة معتبرة، فما ذلك إلا انعكاس لترشيد الموارد وحمايتها من الهدر وتوجيهها نحو ما يفيد ويعم. مدركين لصعوبة تخليص مجتمع من داء فساد شب عليه شبابه وشاب عليه شيبه، كصعوبة تخليص جسم من خلايا سرطان تغلغلت في أطرافه وأحشائه ونخاعه.. لكننا لا زلنا غير راضين عن بقايا الفساد الإداري " المتكيف " والمعشعش في الإدارة والمؤسسات الخدمية بدون استثناء، مع إقرارنا بتحمل جزء من المسؤولية في إطالة عمر و" وتغذية " هذا الفساد من خلال التمالؤ مع ممارسيه، بعضنا مستفيد من ذلك لكن بعضنا الآخر مضطر له لصعوبة الحصول على تلك الخدمات بالطرق المستقيمة..
ولأن العلاقة هنا عكسية، حيث كلما صعبت الإجراءات الإدارية والحصول على الخدمات بالطرق المستقيمة راجت بضاعة بيروقراطيي الإدارة، وكلما سهلت تلك الإجراءات وسهل الحصول على الخدمات بارت بضاعتهم، فإننا بذلك نفهم لماذا تستعص الإدارة على الإصلاح ما دامت تعتبر الإصلاح " عدوا خارجيا " تتصدى له بوسائل دفاعها الكامنة والذاتية! ولذلك لا زلنا نتطلع إلى إجراءات ملموسة ومستديمة تعطي معنى جديدا للإدارة لا تتمثل في زيارات الوزراء للإدارات وحث مسؤوليها وموظفيها على الالتزام بأوقات الدوام وترشيد الموارد وخدمة المواطنين.. فتلك التعليمات يطأطئ المسؤولون رؤوسهم متظاهرين بالإنصات إليها، لكنهم يدركون أنها لن تتعدى ذلك، والإدارة فضلا عن كونها هي المحرك الأساسي للتنمية، فإنها أيضا هي المجس الأساسي لمدى رضا الناس عن تدبير شؤونهم.
بقلم/ محمد ولد البخاري عابدين