الطرق الصوفية، التجارة و السياسية هي محاور ثلاثة يريد البعض أنها ذات الشأن الكبير في طبيعة العلاقات الراسخة بين موريتانيا و غامبيا. و لن يفوت المتتبع للملف الغامبي المضطرب مدى الاهتمام بالذي يجري داخل ذلك البلد البعيد القريب في الأوساط الموريتانية السياسية و الدينية و الاقتصادية على ضوء الوساطة التي قام بها الرئيس محمد ولد عبد العزيز و مدى جدية و تداخل مواقفها في بعض الأوجه على الرغم من التباين الذي تفرضه الاختلافات السياسية القائمة على خلفية الأزمة المستمرة منذ أمد بين المعارضة و الأغلبية.
في المحور الأول، يبدو أن الكثير من الموريتانيين ذووا النزعة الشنقيطية/المرابطية مجمع على أن بلدهم لعب في الماضي دورا معتبرا لنشر الإسلام في ربوع غامبيا ضمن دور أشمل في كل منطقة غرب إفريقيا. و هو الموقف التاريخي المتداول في حلقات مجالسهم و مصدر الأحاديث المليئة بمنطق الفتوحات العسكرية و الدعوية و التعليمية الذي راسخ في عقولهم رسوخ الجبال؛ فتوحات سردية لا يقدمون للمرجعية المدونة إلا بعسر شديد ـ بعيدا عن الكتابة العلمية للتاريخ المنهجية ـ عن علاقتهم التي تمتد عبر قرون بشعوب هذه الدول المجاورة.
و أما الذي يبقى لافتا بقوة و على النقيض من ذلك هو أن المصادر التي تتحدث عن دخول و انتشار الإسلام في منطقة غرب إفريقيا عموما و في مالي و السنغال و غامبيا على وجه التحديد لا تذكر كعامل بارز معلوم الدور عُني بدرجة كبيرة بنشر الدين و تعاليمه في هذه الربوع، و أن الذين اهتموا بتاريخ دخوله إلى هذه المناطق قد أجمعوا، اعتمادا على ما وصلوا إليه من بحوث علمية أكاديمية و منهجية توخت الدقة و جمعت المصادر الموثوثقة بشتى أنواعها و غربلتها، على أن التجار هم الذين لعبوا دورا مزدوجا، تجاريا ودعويا في آن واحد، و عملوا علي نشر فقهه واللغة العربية من خلال تزامنها مع عملهم، فتأثر بهم زبناؤهم الإفريقيون، و بدأوا يدخلون في دين الله أفواجا. و يضيف هؤلاء التجار أيضا أن السوننكي أو ( الوانغارا ) كما يقول أهل نيجيريا هم أول من اعتنق الإسلام على أيدي القبائل التي مارست التجارة مع العرب القادمين من شمال إفريقيا، و تعلموه ونشروه و إليهم يرجع الفضل في دخوله إلى "كانو". حتى و لو أن هذا لا ينتقص من دور المرابطين فالشناقطة فالموريتانيين لاحقا في نشر العلوم الفقهية و اللغة العربية و فتح أبواب انتشار الحركات الصوفية التي لعبت دورا هاما في ترسيخ الدين في المهد، إلا أن الغلو في شأنه معيق أمام كتابة موضوعية للتاريخ و حائل أمام الاستفادة منه بشكل صحيح.
و أما محور التجارة الذي هو قائم أيضا كعامل حضور لا تخطئه العين للموريتانيين في غامبيا إلا أنه عرضة لتهويل تأثيره الذي لا يناسب حجمه الفعلي على أرض الواقع. فرغم وجود جالية معتبرة تمارس التجارة على نطاق واسع و تمسك بقسط لا يُستهانُ به من المال و تشارك به في إنعاش الحركة الاقتصادية للبلد، إلا أن هذا النشاط أحادي الوجه تقليدي المنهاج و بعيد الارتباط بالوسائل و الطرق الحديثة التي تنميه و ترسخ قدمه على الأرض حيث أنه يتمثل في الإيراد و البيع بنصف الجملة و القسط بأساليب تقليدية متجاوزة لا تتجه إلى التصنيع و الاستثمار الكبير لخلق قطب اقتصادي نافذ و ضاغط حين الحاجة وقت الأزمات السياسية الكبرى و غيرها كالاستحقات الانتخابية و هو الأمر الذي قلل من شأن الجالية و دورها و أبعد عنها ضمانات الحماية و النفوذ. و للافت للإنتباه أن تفكير هذه الجالية حول أمور التجارة و الاقتصاد هو بالذات تفكير أهل المال في البلد لا يتوجهون إلى تحديث الأساليب إلى الصناعة و الماركة و لكنهم باقون على استيراد بضائع العالم و بيعها بالجملة و التقسيط.
و أما المحور السياسي فقد ارتبط في مرحلة الثمانينيات و التسعينات من القرن المنصرم بالأحداث الخطيرة التي شهدتها ضفتا نهر السنغال و تأزمت على إثرها الأوضاع بشكل غير مسبوق بين موريتانيا و السنغال و اندلاع أعمال شغب زهقت خلالها الأرواح البريئة و كادت الأوضاع أن تؤول إلى حرب بين البلدين لولا أن تداركت قيادات البلدين الأمر. و بقدرما اهتمت السنغال في غير ما حياد لأمر بعض الحركات التي طالبت بالانفصال، اهتمت موريتانيا بقضية "كاصامانص" الملاصقة لغانبيا و التي تدعو إلى الانفصال لتجعل منها كفة للتوازن مع السنغال في سياق التوجهات إلى التصعيد و التوتر التي كانت إذ ذاك قوى بداخلها تسعى إلى تهديد تماسك النسيج الموريتاني. و على إثر ذلك بدأت الأمور مع التعقل و التبصر و الحسابات الدقيقة بالفعل تهدأ و الأمور ترجع إلى نصابها و العلاقات إلى سابق عهدها و ليعود النهر شريانا دافقا تجري معه الحياة بانسيابيتها المعهودة. ثم توالت السنون و ظل تجار موريتانيا و مشايخ الطرق الصوفية فيها يوطدون العلاقة العريقة بين الشعوب و يستثمرونها لصالح الاستقرار و التآلف و تبادل المنافع. لكن مرجل الأطماع السياسية و الرغبة في الحكم لم تهدأ يوما في صمتها الظاهر عن الغليان و كان كل طرف يمهد لرؤيته و راسخ أو قابل عهده حتى جرت الانتخاب الرئاسية في غامبيا و ما في أعقابها من تأويل المواقف و تداعيات الأمور. و ها هو ذا شبح الحضور و النفوذ و التأثير في غامبيا يعود ليحرك الغرائز السياسية التي كانت نائمة و يهب كل طرف للدفاع عن أطماعه أو مصالحه أو نفوذه بغض النظر عن أشكالها و أحجامها و أبعادها، و ليتجدد كذلك سابق التموقع و تتحرك الأوراق و يشحذ مستجد المواقف و القراءات درء للإضرار بالمصالح.