في الديمقراطيات التي تحترم نفسها يُقدم المرشحون برنامجاً مُتكاملاً يتضمن تصوراً لإدارة البلد الذي سيتولون رئاسته في حال فوزهم، وفي العديد من الدول الغربية يحرص معظم المرشحين للانتخابات الرئاسية على اختيار فريق مُتكامل يجمع بين المختصين في اللغة وفي علم النفس، وكذا في العلوم السياسية. قرأت قبل فترة أن أحد المرشحين للرئاسيات في أمريكا تدرّب كثيراً على الطريقة التي يحرك بها يديه أثناء الكلام أمام الجمهور، بمعنى أن المُترشح يحتاج إلى تعلّم الكثير من المهارات التي تجمع بين عدة تخصصات كي يتمكن من إقناع الناخبين.
كان مرشحو الانتخابات الرئاسية في موريتانيا حتى 2007 يحترمون عقلية النُّخَب على -الأقل – من خلال توزيع كُتيب يحتوى برنامجاً قديكون أُعد بصورة مستعجلة، لكن خطوة هكذه، وبغض النظر عن مدى التزام أصحابها ببرامجهم الانتخابية، تنم عن مدى احترام المرشحين لمجتمعهم، وفي الآونة الأخيرة بدأت الحملات الانتخابية في موريتانيا تُركز على تسويق الناخبين بدل البرامج، بمعنى أن المرشح صار مُلزماً بالتفكير في أفضل الطرق لشراء الأصوات بدل إقناع أصحابها ببرنامجه الانتخابي، وأصبحت مبادرات الدعم "اللامشروط" هي البوابة التي من خلالها تتم عملية البيع والشراء التي تأخذ أشكالاً عديدةً قبل أن تتحول إلى سيولة في جيوب أشخاص محدودين يتولون بقدرة قادرعملية التّصويت عن البقية في يوم الاقتراع.
هذا التفويض المُخل بكل القوانين يتم تبريره عبر منظومة اجتماعية معقدة تستحضر ما اسماه الدكتور بدي ولد ابنو "بظاهرة الزومبي"، التي يُوظف فيها الأشباح بالاعتماد على هيكل البنية القبلية للقيام بوظيفة محددة هدفها تصويغ كل التجاوزات لتكون جزءاً من الذاكرة ومن المصالح التاريخية، مشكلةً في تلك اللحظة ضابطاً أخلاقياً يجعل من كل المحظورات تنصهر ضمن قالب مثالي يُشكل أولوية من أولويات المجتمع. وفضلاً عن استخدام القبيلة والجهة في التأثير على الناخبين وفي شرعنة كل وسائل التزوير، برزت معطيات جديدة توحي بعجز النخبة في المجتمع عن إنتاج خطاب موازٍ للخطابات الأنانية التي ترتكز على الدور المحوري لما أسميته بـــ :"المُهرِّج المساعد"، الذي يسعى لإضفاء صبغة حماسية على المهرجانات بهدف التغطية على المهازل التي ترتكب على المنابر الخطابية خلال الحملات، والتي بدورها تدفع مكونات الشعب لمزيدٍ من التفكيك.
والحقيقةُ أن ترسيخ الخطاب الفئوي في القاموس السياسي بموريتانيا ساهم هو الآخر في تكريس ظاهرة التسويق الانتخابي التي كشفت عن طبيعة الهُوة الشاسعة بين طبقات المجتمع، الذي يبدو أنه أصبح مقسماً إلى فئتين أساسيتين إحداهما تمتهن تجارة الأصوات وتستخدم في ذلك كل الدعايات التي قد تكون مُجرمةً بحسب القانون الموريتاني، كالقبلية والجهوية والعنصرية، وأخرى تحتكر المال الذي يُمنح بسخاء في مواسم النخاسة السياسية، وقد يكون التسجيل الصوتي الذي تم تداوله مؤخراً عبر تطبيق What sap أكبر دليل على تفشي هذه الظاهرة التي يُسخر فيها الطرفان كل الوسائل لتبرير تصرفات لا تمت بصلة لمعايير الشفافية في الانتخابات .
المثير للاستغراب في مبادرات الدعم هذه أنها تتسابق للمرشح الذي تراه أوفر حظاً أو ما تسميه -بمرشح الاجماع-، لتقديم خدماتها التي تبدو في ظاهرها مجانية، لكنها في الحقيقة تسعى إلى الاستئثار بالصّفقات المهمة وببعض المناصب العليا في الدولة، وهناك من يبحث عن مصلحة آنية تهدف لتحقيق مآرب شخصية، والأغرب من ذلك أن هذه الممارسات أصبحت جزءاً مهماً من التقاليد الانتخابية في البلد، الأمر الذي أفقد المعارضة التقليدية قدرتها على المنافسة بعد أن تمّ تجفيف منابع تمويلها بشكل لم تعد معه قادرةً على التصرف بمرونتها المعتادة داخل إطار كانت تحسن اللعب فيه منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى نهاية النصف الأول من العشرية الأخيرة. قد يكون النظام الحالي نجح في تفكيك المعارضة، عبر عمليات مختلفة جمعت بين التخويف والتجويع والإغراء، لكن ذلك ربما يكلف موريتانيا وحدتهاعلى المدى القريب، خصوصاً وأن مشاعر الانتقام آخذة في التنامي، تجاه طبقة توحي ملامحها وظروفها الاقتصادية بأنها لاتمت بصلة لعالم البؤس الذي يحيط بها من كل مكان، والأخطر من كل هذا أنها بات تنظر إليه على أنه مجرد ريع انتخابي يضمن استمرارها في السلطة وفي التّحكم في الأرض وما فيها ومن عليها...
د/ مم ولد عبد الله