بمجرّد أن حَسَمت الأغلبيةُ الرئاسية اختياراتِها وسمّت مرشحَ حزبِ الاتحاد من أجل الجمهورية للاستحقاقات الرئاسية القادمة مرشحا لها، فقد بدأ العدُّ التنازلي للتغيير القادم تحت إمرة المرشح محمد ولد الشيخ محمد احمد ولد الغزواني، ورغم امتلاك المرشح المذكور للمواصفات المطلوبة لخوض غمار الاستحقاقات القادمة، ورغم حظوظه العالية في الفوز بها، إلا أن التحديات التي تنتظره في القصر الرمادي تعتبر تحديات في غاية الصعوبة؛ فماهي الإمكانات التي يدلي بها المرشحُ المذكور لإدارة المشهد الوطني ؟ وماهي الملفات الخطيرة التي تنتظره ؟
يمتلك المرشح ولد الغزواني مواصفات مهمة ستشكل أرضية صلبة تمنحه القدرة على الثبات في وجه العواصف والهزات والمصاعب التي يعانيها عادة كل من يتصدى لإدارة مشهدنا الوطني؛ فولد الغزواني ينحدر من وسط اجتماعي تمتد جذوره في التشكيلات الاجتماعية العريقة التي تشكلت منها ساكنة موريتانيا منذ القدم، وهو سَلِيلُ بيت ظل يتولى تسيير إحدى أهم الطرق الصوفية التي ساهمت في تشكيل الملامح الدينية والتربوية للمجتمع عبر أجيال عدة، ولا يزال بيت آل الغزواني يتمتع بمكانة خاصة في نفوس غالبية أفراد المجتمع الموريتاني إلى يوم الناس هذا، كما أن التاريخ يحتفظ بأدوار مهمة لآل الغزواني في الكفاح ضد الغزو الاستعماري الذي تعرضت له البلاد مطلع القرن الماضي، ويكفي أن نتذكر أن الشهيد سيدي ولد ملاي الزين أحدُ مريدي جدّ المرشحِ الغزواني، وقد بارك له - يومئذ- عزمه على تخليص البلاد من المقبور كبولاني أولِ حاكم تَبعثُ به فرنسا الاستعمارية للبلاد، ينضاف إلى ذلك أن المنطقة الجغرافية التي ينحدر منها الغزواني تعتبر أهمّ وأخطرَ خزّان انتخابي ظل يتحكم في صناديق الاقتراع في البلاد منذ أن بدأت تجربتنا الديمقراطية مطلع تسعينات القرن المنصرم، ولن يكون ماضيه العسكري إلا في صالحه إذ سيدفع بالجيش والقوى الأمينة لرص الصفوف خلفه لدعمه وحماية ظهره، مما يمنحه القدرة على اتخاذ القرار بكل ثقة وراحة بال .
وإذا تأملنا في مواصفاته الشخصية وتكوينه الذاتي نجدها أيضا تضيف في رصيده بشكل لافتٍ؛ فالرجل معروف بالهدوء والابتعاد عن الاضواء ويبدو أنه ظل يحتفظ بمسافة واحدة من كل مكونات الساحة الوطنية رغم تناقضاتها الصارخة أحيانا، كما يحسب له بعده عن مجال التأثير القبلي، بل إن بعض أفراد قبيلته يأخذون عليه عدم رغبته في التعاطي القبلي مع أفراد القبيلة، ينضاف إلى هذا كلِّه كونه قد التحق في وقت مبكر من حياته بالجيش حيث احتلت المهنيةُ والانضباطُ معظمَ أوقاته ولم يتركا له متسعا للتعاطي مع الوسط الاجتماعي التقليدي الذي تشرب منه سياسيونا وراحوا ينقلون أمراض أواسطهم الاجتماعية للمحافل الحزبية والسياسية بشكل عام، ولا ريب أن التربية العسكرية ستترك أثرها على نفسيته واعتداده بشخصه وميله إلى الانضباط وأولوية خدمة الأمة، وآيةُ ذلك جدّيتُه المهنية التي جعلته يختم حياته المهنية بأكبر رتبة عرفتها البلاد، وهو أيضا عارفٌ بالشأن الوطني ، بحكم موقعه من دوائر القرار فترة طويلة من الزمن، على الأقل منذ انقلاب : 2005 ؛ حيث ظل موقعه يتراوح ما بين الثالث أو الثاني بين العناصر العسكرية التي ظلت تمسك بخيوط اللعبة على المستوى الوطني .
ومع هذا كله فلا يخفى أن التحدي الذي ينتظر الرجل كبير جدا، وإنْ تناسبَ مع تلك الاستعدادات التي يمتلكها : " على قدر أهل العزم تأتي العزائم .."، ويعتقد الكثير من الموريتانيين أن الرجل قادر - بحكم تكوينه الشخصي وخلفيته الاجتماعية - على التعاطي الإيجابي مع ملفات عديدة مؤرّقة ظل بعضها يُرحّل من سلفٍ إلى خلفٍ وكأنه ظل خارج منطقة اهتمام الجميع، وبعضها الآخر عولج معالجة غير مكتملة، مما جعلها تتراكم وتتشابك وتعطي مخرجات خطيرة على حاضر البلاد ومستقبلها ، غير أن الكثير من هذه الملفات لم يعد قابلا للتأجيل بأي حال من الأحوال؛ والطريقة التي سيعالج بها هي التي ستتحكم في مصير موريتانيا فإن عولج بأسلوب صحيح سيشكل ذلك تحولا حقيقيا لموريتانيا نحو الاستقرار، وسيجعل الجميع يتفرغ لملف التنمية الشاملة حكّاما ومحكومين ، وعكس ذلك إن عولجت تلك الملفات بطريقة خاطئة ـ لا قدر الله ـ ؛ وفي أول تلك الملفات المؤجلة ملف التعليم الذي أهمل إهمالا كاملا وبات في وضع يرثى له حيث تُرك منذ عقدين من الزمن يترنّح نحو الهاوية حتى أصبح جزءا من مشكلة تخلف الوطن وتهميش أبنائه وإقصاء مكوناته الاجتماعية، وبات يساهم في الطبقية وزعزعة الاستقرار، وهو في وضعية غير قابلة للعلاج إلا إذا أعيد بناؤه من جديد وفق استراتيجيات وطنية واضحة المعالم يتم التخطيط لها بعناية فائقة، مع التركيز على إعادة ترتيب أولوياته وصقل أهدافه وغاياته، وانتزاعه من أيْدي كلّ التسويات المحلية والإقليمية والدولية التي ظلت تمارس هيمنتها عليه ضاربة بعرض الحائط مصالحَ الأمة الموريتانية وأولوياتها .
والملف الثاني هو ملف الفساد الذي عولج معالجة غير مكتملة؛ ورغم أن الفساد راسخ في مفاصل الدولة، وله طبيعة بنيوية معقدة، وقد فوّت فرصا كثيرة في التنمية الحقيقية على الوطن، ويتخذ أشكالا ونماطا مختلفة .. إلا أن المعالجات التي عرفتها البلاد لهذه الظاهرة كانت خجولة أكثر من اللازم، وشبهَ موجهة أيضا ؛ بمعنى أنها لا تستهدف اجتثاث الفساد والقطيعة معه بقدر ما تستهدف التأثير واستثمار ذلك التأثير في مجالات بعينها.
والملف الثالث هو المتعلق بتطبيق الدستور وتقريب الإدارة من المجتمع وهو أمر يقتضي أن تكون الإدارة بلغة المجتمع حتى يكون المجتمع قادرا على التعاطي معها وفهم مقاصدها وغاياتها ، وللمترشح الغزواني تجربة مهمة يتذكرها الموريتانيون بارتياح عند ما أمر بتعريب الجيش يوم أن كان قائدا للجيوش ، ويجب أن يستتبع ذلك اليوم بتعريب التعليم والإدارة مع الاهتمام باللغات العالمية التي ارتبطت بها العلوم المعاصرة كالإنجليزية وغيرها من اللغات الحية .
وانضاف إلى هذه القائمة ملف آخر أصبح أكثر إلحاحا من كل الملفات السابقة ألا وهو ملف الأمن ؛ فلقد عرفت البلاد في الآونة الأخيرة موجةً من الجرائم تمثلت في السطو المسلح أحيانا، والاغتيالات المريعة، حتى أصبحت الجريمةُ تتم في وضح النهار، على مرأى ومسمع من الأمن وأعوانِه، مما جعل الكثير من ساكنة البلد يتحدثون عن ضرورة امتلاك أسلحة لحماية عوائلهم وممتلكاتهم ، وهذه لعمري جريمة أخطر من كل الجرائم التي يمكن أن تعرفها البلاد ..!! ويبدو أن نظام عزيز ركّز على أمن الحدود ولم يضع أي استراتيجية أمنية لأمن الداخل حتى بات الأمر في غاية الخطورة باعتراف الجميع ، وينضاف إلى هذا العنوان وتحت الملف الأمني ذاتِه موجة الفلتان الفئوي والجهوي التي تميزت بها مأمورية عزيز الأخيرة؛ لما لها من خطورة واضحة على السلم الاجتماعي والأمن الوطني بشكل لعام .
تُرى هل سيستثمر الغزواني مؤهلاته وإمكاناته لتلافي الوطن وانتشاله من هاوية الضياع والبتّ في قضاياه العالقة ، أم أنّ فرحتنا بأي قادم جديد إلى الرئاسة هي من باب فرحة أم الضباع بمولودها الجديد ؟؟؟
بقلم / يحيى البيضاوي ـ المدينة المنورة