تلك مقولة شعبية مكينة وذائعة في الثقافة الموريتانية، تتردد كثيرا في أحاديث البطولات والسير التي ترويها الجدات والأمهات لأبنائهن وأحفادهن، كما تتردد على المنابر ومنصات الخطابة والوعظ والإرشاد، وفي دروس الحكمة والتربية ومجالس الصفوة، حتى باتت مثلا سائرا على كل لسان. ومع المحلية الطاغية لتلك المقولة، كلفظ تتداوله- بشكل حصري- ساكنة مجابات الصحراء الإفريقية، من الناطقين باللهجة الحسانية العربية خاصة، فإن المقولة، بما ترمي إليه، تترجم حالة "فردانية" عتيقة مهيمنة في التراث العربي الإسلامي، حيث الملك العادل، والأمير البطل، والفاتح الأوحد، وقاضي القضاة، وشيخ الإسلام، والإمام الأعظم، وحجة الإسلام، وعالم الأمراء، وأمير العلماء، بل والمهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا...
«رَاجلْ يَبْنِي حِلَّهْ، وحِلّه ما تَبْنِي رَاجل».. ملخص يجسد فردانية طبعت التاريخ السياسي والعلمي والاجتماعي للأمة، وشكلت مقولاتها ثقلا من التراث المكتوب والمتداول شفهيا، وهي ما تزال تسري في لا وعينا، وتصرف الواقع المعيش في مختلف أقطارنا، حيث المعول عليه- ما يزال- في السياسة الزعيم الأوحد، وفي الجهاد والمقاومة، القائد الفذ، وفي الفتاوى والتراث الديني، العلامة المتفرد والمرشد الأعلى، وفي المعارف والعلوم، أستاذ الأساتذة؛ ثم تتوالد الخواطر وتتناسل الأفكار والتداعيات، بحقائقها وأوهامها، لحشد المزيد من الأمثلة التي تدعم فرضية الهيمنة، وميثولوجيا التفوق التي تبرر التفرد والتسلط والاستبداد بأمر الناس دونهم...
«رَاجلْ يَبْنِي حِلَّهْ، وحِلّه ما تَبْنِي رَاجل».. من يتابع ما تنشره المواقع وصفحات الأخبار والتواصل، المساندة أو المعاندة، عن هذا أو ذاك من الأسماء الوطنية التي أعلنت ترشحها، أو أكدت عزمها على الترشح، أو توقع لها متابعون للشأن السياسي اللحاق بقائمة المرشحين للانتخابات الرئاسية الوشيكة؛ يجد نفسه مضطرا للربط بين الخواطر والأفكار والتداعيات التي تثيرها هذه المقولة الشعبية العتيقة، وبين أولئزكز المرشحين- فعلا أو توقعا- حيث ينصب الاهتمام الحصري للكتاب ومؤلفي القصص الإعلامية، والمقررين والمدونين والمعلقين، بالمزايا والمميزات الشخصية والقدرات الفردية الخارقة لهذا المرشح أو ذاك، وكأن الأمر يتعلق بحالة انقلابية، يعزف فيها المارش العسكري، فتتم إعادة ترتيب أوراق السلطة، قسرا، أو بجولة مغالبة بدنية، في ملعب للمصارعة الحرة، أو حلبة للملاكمة، ليس منافسة انتخابية على مجتمع يغالب الداء، وبيده الدواء...
«رَاجلْ يَبْنِي حِلَّهْ، وحِلّه ما تَبْنِي رَاجل» مقولة عتيقة يشغل حديثها اليوم الحملات الاستباقية الجارية، فلا تجده يجتاز المترشحين، وخلفيات كل منهم وحظوظه المتوقعة، والمطالب الصغيرة المعلقة عليه؛ وهو حديث قد تناسب ما يراد لنا، لكنها- بالتأكيد- لا يناسب ما نريده لأنفسنا؛ ذلك أن المعركة التي يعد لها الجميع، وتحبس مكونات الدولة أنفاسها في انتظارها، هي معركة الجماهير، لا معركة المتنافسين عليهم؛ والمعول عليه فيها هو خيار الشعب؛ وأدوات النصر المحقق فيها هي يقظة الضمائر والنفوس، وتحفز الإرادات والهمم، والتصميم على إحداث التغيير المنشود، وصنع المفاجأة التي تقلب الموازين والأوضاع؛ إلا أنك لا تكاد تسمع إلا همسا، في تلك الأحاديث والمقالات والخطب، عن الناخبين، مع أنهم المعنيون بالمعركة، والمتحكمون بأصواتهم في نتائجها، والساعون بجد لرفع معاناتهم المتطاولة، وتحقيق أحلامهم المشروعة في المشاركة في صياغة حاضرهم ومستقبلهم...
«رَاجلْ يَبْنِي حِلَّهْ، وحِلّه ما تَبْنِي رَاجل» هي إذن مقولة متخلفة، تناسب عالما غير عالمنا، وحالة غير حالتنا، وهي لا تعدو كونها بقية باقية من تراث الانقياد للاستبداد، تسربت إلى تراث آبائنا وأجدادنا الغابرين، من الأقربين والأبعدين، فتلقفتها جداتنا وخالاتنا، فحملناها عنهن تلقينا، وتشبعنا بها، نظما ونثرا، ثم سلكناها تقليدا ونهجا ضابطا للحياة؛ كان ذلك أيام الحلة والمحصر والنزلة ولفريك والقبيلة؛ وفي عهد البداوة والحل والترحال، سابقنا بالمقولة السحرية تلك، على الكلأ والمرعى، وزاحمنا بها على مصدر الماء، وميزنا بها موقع القائد، في غاراتنا وكرنا وفرنا، وسيرنا بها قوافل تجارتنا وميرتنا؛ لكن المقولة السحرية التي ضبطت حلة فلان ومحصر بني علان، في أكثر من زمان، وأكثر من مكان، أبت إلا أن ترافقنا وتلاحقنا، بل وتسبقنا، يوم تسللنا فرادى وفؤاما، لواذا وانتقالا من مضارب الحلة ومسارحها ومناهلها، إلى مجال الدولة ونظمها وحدودها ومتطلباتها؛ مع أنها لم تكن تصلح ضابطا فيما نصبوا إليه من قيام دولة العدل والإحسان...