عرفت البشرية، منذ نشأتها، وعبر مختلف محطاتها وأطوارها، حالات للالتقاء والارتفاق والتعاون، اقتضتها الضرورة الحياتية للبشر، كما للحيوان سواء بسواء؛ لكن الانسان، وهو ذلك الحيوان المميز بنطقه، وبعقله، المدني الاجتماعي بطبعه، قد طور مع مرور الوقت وصروف الزمان وإكراهات المكان، علاقات بينية تتجاوز الضرورة الحيوانية، والمصلحة الذاتية، إلى الأطر الأكثر مناسبة للكائن المتحضر؛
لقد لعبت العلاقات والقرابات، والوشائج، وما تنشئه من مشاعر حميمية متبادلة، دورا حاسما في تعزيز الانسجام والولاء والانحياز؛ وابتعد الناس خطوة فخطوة، عن انماط السلوك الحيواني المدفوع بالضرورة والغريزة، لصالح سلوك إنساني عاقل، ذي اهداف وغايات فنضجت فكرة العائلة والعشيرة والقبيلة والشعب، كاطوار بدائية سحيقة من الكيانات السابقة على الدولة؛.
تركت تلك الكيانات البدائية بصمات باهتة، لكنها معبرة عن نمط حياتها وطرق معيشتها، وعن سلمها وحربها، وذلك على جدران الكهوف والأحافير، وبين المقابر؛ ثم تطورت الأساليب والمسلكيات والاشكال التنظيمية، وتطورت البصمات البدائية، شيئا فشيئا، إلى سطور بارزة، في صفحات وسجلات التراكم التاريخي للحضارة الإنسانية، والتي تولت كتابتها الدول المتعاقبة؛
كانت الدول والإمبراطوريات، في كل فترات التاريخ، تقوم على الإكراه والغلبة والقهر، وعلى الطاعة العمياء للاباطرة والفراعنة والأكاسرة والقياصرة، وسواهم من الخلفاء والملوك والأمراء والقادة والولاة، فكانت الدول تسجل بأسماء أصحابها وانسابهم وأحسابهم، وتملك حق التصرف في نفوس العامة وأموالهم، وتؤخذ لصاحبها البيعة، منهم تحت الإكراه، وبحد السيف.
وعلى مثل تلك الدولة، وبسيوف القابضين عليها، والساعين لانتزاعها، عبر التاريخ، وتحت أعلام ورايات كل الوثنيات، وشتى الديانات، سالت أبحر دافقة من الدماء البشرية، في حروب لا تتوقف إلا لتبدأ، كانت مسؤولة عن فناء شعوب بكاملها؛ ولم تعرف البشرية قط، إذا ما استثنينا العقوبات الإلهية للمكذبين من طوفان وريح وصيحة ورجفة ونحوها، لم تعرف سببا للموت اكثر فتكا من الصراع على الدولة والملك.
لقد قطعت البشرية اليوم شوطا بعيدا، وبلغت شأوا غير مسبوق، في تسلق شجرة المعرفة بكل فروعها، وفي فهم واستيعاب فلسفة الحكم، وتدبير شؤون الدولة، وإدارة المجتمعات، وقد امتلك الناس العديد من وسائل التقدم، وباتت الدولة ضرورة إنسانية، وأداة للتنمية، خادمة للفرد والمجتمع، تنشا بالتراضي حول عقد اجتماعي ملزم، يضمن العدل والحرية والمساواة والتداول السلمي للسلطة؛
لكن الحقيقة المرة، ان كل تلك الفلسفات والمعارف والوسائل غير المسبوقة، فشلت فشلا ذريعا في تعديل طبع ذلك الإنسان الهلوع الكنود العجول الظلوم، وخلال المائة عام الأخيرة، وحدها، ابادت الحروب غير المسبوقة، من هذا الجنس البشري، أضعاف ما اهلكته حروب القرون؛ وتملك اليوم دول قليلة، هي بعدد أصابع اليد الواحدة، او تزيد قليلا، أزرارا نووية، بإمكان كل منها إنهاء الحياة على الكوكب بلمسه واحدة.!
هي أسلحة دمار شامل لإرهاب العالم، بكل دوله التي يبلغ عددها اليوم على البسيطة، حدا غير مسبوق في التاريخ، فهو يناهز مائتي (٢٠٠) دولة؛ وهذا العدد قابل للزيادة، بالانقسام والانشطار والتقسيم والقضم والتشظي، كما هو قابل للتقلص بالضم والانضمام والدمج والاندماج والتكتل والتوحد، فالخارطة التي تضم كل هذا العدد من الدول الكبيرة والصغيرة، القوية والضعيفة، الغنية والفقيرة، تم رسمها في غيبة معظم اهلها، فهي إذن لا تلبي بالضرورة إرادة شعوبها ومصلحة مواطنيها.
وهناك في هذا المجتمع الدولي قوى كبرى، قادرة، لو ارادت، أن تفرض السلام والامن والإنصاف في العالم، لكنها لا تريد ذلك، وليس من أهدافها القريبة ولا البعيدة والكارثة أنها تكرس كل قوتها ومكانتها الدولية لمزيد من القوة ومزيد من المهيمنة، وهي تفرض نفسها طرفا في كل الحروب والنزاعات التي تمزق العالم، وهي مصممة على الانتفاع بأقصى ما يمكن من أي وضع دولي قائم، كما هي قادرة على أعادة تشكيل خارطة العالم، بما يعزز قبضتها.
بين استحضار ذلك التاريخ الدامي، ومعاناة واقع الهيمنة الضاغطة، يتفنن المستضعفون من شعوب الأرض المستباحة، بالفعل أو بالقوة، في تلوين أحلام يقظتهم السوداء، بلون الورد، آملا في العيش ضمن عالم إنساني مسالم، يأمن فيه الضعيف بطش القوي ومؤامراته، وتملك فيه الشعوب المستضعفة أمر نفسها، ويداعبها امل الفكاك من ثالوث الجهل والفقر والمرض، وأمل التمتع بالحياة بين معروف مبذول، وأذى مكفوف.