إيڭاون.. "المهنة" التي تحولت من فن إلى ذاكرة.. وتاريخ أمة

ثلاثاء, 10/15/2019 - 13:17

هي احدى أبرز المهن التي تطلبها المجتمع الحساني أيام رخائه ، حيث انتعشت الفنون الانسانية في زمن لا يفلح فيه إلا من تحركه اوتار التيدنيت وآردين .

وقد توسعت المهنة من فن إلى حافظة لمآثر وتراث الامارات والزعامات القبلية والمشايخ والعلماء.

ولم تقتصر المهنة على تلك الجوانب بل تعدت إلى ميادين الحرب والسلم ، مبدعة لكل هدف فن يلامس مشاعر الانسان .

نسج إيڭاون نغمات على منوال الزنوج وسموها "الردات الكحل" وأخرى على منوال العرب وسموها "الردات البيظ" وأخرى جمعت اللونين سموها "الردات الزرڭ"، لتولد من ذلك ثلاثُ طرق موسيقية أو ما يُعرف بالجانبات "البيظَ، الكحلَ ولڭنيديَّ"، وقسموا المحطات الغنائية في كل واحدة من هذه الطرق إلى أربع تشمل أهم مشاعر الإنسان: يبدؤونها بـ"كر" وهو مَقام الفرح والطرب ويُثنون بـ"فاقُ" وهو مَقام الحماس والفخر ويثلثون بـ"سنيمَه" وهو مَقام الحُب والوجدانيات ثم يختمون بـ"لبتيت" وهو مَقام الحُزن ورقة العاطفة، ويتم الإنتقال من محطة إلى أخرى بإرخاء أحد أسلاك التيدنيت أو آردين، فيكون لبتيت-وهو آخرها-مرخى الأسلاك كلها فهو بارد هادئ.

نالت المهنة اعجاب العامة لما يتلقى القائمين عليها من تبجيل وعز وحفاوة ، فجذبت من جميع مكونات المجتمع الحساني ممتهنين من شرفاء وعرب وصنهاجة ، فتكون مجتمع يسمى إيڭاون وكان محل عز واعتزاز.

وكان من كمال الفتوة عند "السلف" أن يكون الشاب "مفتوح في أزوان" أي عارفا به متذوقا له يحضر مجالس الطرب ويبجل إيڭاون ، وفي كل إمارة تقريبا ظهر أمراء أدباء بل وعلماء مفتوحون في أزوان:

ففي منطقة الحوض ظهر الشريف العالم سيد عبد الله ولد الشيخ المهدي ، الذي ضرب ناقوس الخطر ، وبذل جُعلا سخيا من أجل البحث عن "شور" يسمى أغوراس كان قد سمعه يعزف أمام أبيه.

ولما حضر لديه خمسة فنانين كبار عزفه من هولاء الفنان الكبير مولاي اسماعيل ولد أباش ، فاعطاه جُعله وقال له  :

تخبط غوراس ابلا انزاع // جبتو واتجيب اجناسو

شاعر غيرك فالحق كاع//  رابط راصي غوراسو

تخبط لكلاب ابلا اعتيك // اوتخبط لخبيط اخبيط سيك

او تخبط لكرين بطليك    // فيه الشعره لا كاسو

عند التلاه أو فامريك  //   ما يعرفو شيواسو

تخبط للميز او تكرين // او تخبط لقيام  اخبيط زين

او تخبط للرج ابلا الهين // وزوانك تخناس

وفمغجوك حق زين // اوزين امل تنقاسو

كما لا زم بعض العلماء مجالس الفنانين حيث يقول العالم الشريف مولاي عبد الله بن باب

عند اهل أباش هذا نا // واضع جنبي هون العربي

اللهم يا مولانا // بسمك وضعت جنبي

وغيرهم من العلماء والصالحين كثير لا حصر له.

وكان أمراء أولاد أمبارك لا يفارقون ملازمة الفنانين سواء في السلم والحرب ، حيث المراتب العالية والعطاءات السخية التي يطلقون عليها (المسنون) ما يؤكد مدى ارتباط الامارة بشريحة اكاون.

ومثل إمارة اولاد امبارك ، مثل جميع الامارات، بأمرائها وعلمائها كانت  تتنافس على كسب خواطر هؤلاء الفنانين ، لاستدرار قرائحهم وتحريك عواطفهم بأي ثمن، فهذا اعلي بابي بن بكار بن اعمر الإدوعيشي أحد زعماء إدوعيش ينقل سدوم بن انجرتو من الحوض إلى تڭانت مُقابل "كريت سدوم" التي صارت مضرب مثل في الغلاء حيث اشترط من بين أمور أخرى: نصيبا من كل شيء(إبلا أو بقرا أو غنما أو حصادا) يطرأ على الإمارة، وجلب الماء له مجانا كل يوم، وجمل يدفع عن كل زواج يقع في إدوعيش، وله الظهر من كل ذبيحة، ونصيب من كل صيد، ومن يذبح له ويسلخ بلا أجرة.

وكان في كل إمارة أكثر من عارف به متذوقا له، يحضر مجالس الطرب ويبجل الفنانين، وفي كل إمارة تقريبا ظهر أمراء أدباء مفتوحون في أزوان: ففي الترارزه: اعلِ بن محمد لحبيب أمير الضفتين وابنه بياده وأحمد بن الديد، وفي أولاد امبارك: الكفيه بن بوسيف، وفي آدرار: سيد احمد بن أحمد العيده، وفي إدوعيش: امحمد بن امحمد شين وابراهيم بن ابراهيم والدان بن بكار، وفي إمارة مشظوف: محمد المختار بن اعلِ بن محمد محمود المعروف ب"ول تارمبَ"، وكان ذلك شأن بعض الزوايا أيضا خصوصا في "الڭبله"، ومن نظر في الجزء الذي خصصه ابن حامد للغناء والمغنين من موسوعته عرف صدق ما ذكرنا، وهذان العالمان: حرمه بن عبد الجليل العلوي وغالي بن المختار فال البصادي يستمعان إلى مغنية في شبابهما فينتشيان طربا ويقول حرمه:

ما لي أراك على حال سوى حالي == أما سمِعتَ غنا منينَ يا غالي؟

فيقول غالي وقد بلغ منه الطرب كل مبلغ:

ردت علي سرابيل الصِّبا جُددا == بعد ارتدائي لها بردا بأسمالي

وهذا العلامة محمد بن أبي مدين الديماني يقول للفنانة ياقوته بنت اعل وركان:

صوت تردده الحـــسناء ياقوتا == تنال من حســــنه شذرا وياقوتا

دامت سلامتها جذلى وحاسدها == لا زال عند جميع الناس ممقوتا

وهذا العلامة ڭراي بن أحمد يورَ الديماني يقول للمختار بن الميداح:

لصوتك فى كل القلوب دبيب == فهو إلى كل الأنام حبيب

تفردت فى الضرب الأصيل وفى الغنا == فلم يبق للشادين عنك نصيب

إذا صدئت مرآة قلب فما لها == سوى الضرب والترديد منك طبيب

وإن أخطأ الشادون فى طرق الغنا == فإنك فى طرق الغناء مصيب

فأعطاك يا مختار ربك نصرَه == وتيسيرَه فهو القريب مجيب

ألى غير ذلك...

وفي كل فن ترك الفنانون مدونة ووفروا ذاكرة للحفظ عن كل شيء تغنو بها ، ولم يتركوا مجالا يرتبط بوجدان الانسان إلا لامسو احساسه فيه ، وحتى في الجامعات البدوية المعروفة بـ"المحاظر" ترك إيڭاون بصماتهم في المقرء ، فتجد شيخ المحظرة يصدر الاوامر بالقراءة في جميع المقامات التي ابدعها هؤلاء الفنانون القدماء ، ما يجعل المهنة تاريخ أمة بكاملها ومصدر اعتزازها وفخرها.

ومهما يكن من أمر  فإن مهنة إيڭاون ليست ذاكرة شعب فقط ، بل هي تاريخ وأخلاق..

وإنما الامم الاخلاق ما بقيت // فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

موقع صوت