تأسست مدينة النعمة سنة 1223هجرية 1808 ميلادية بمنطقة الحوض على بعد 1200 كلم شرق العاصمة نواكشوط على يد أبناء مولاي صالح الشرفاء الولاتيون من أبناء سيدي حمو بالحاج المنتسبون إلى مولاي على الشريف السجلماسي الذي ينتسب اليه جميع أسر شرفاء ولاتة. .
تحيط بمدينة النعمة سلسلة جبال من الشرق والشمال والجنوب وتبقى الجهة الغربية هي المنفذ الوحيد للمدينة وقد اشتهرت تاريخياً سلسلة جبال النعمة بأنها كانت بمثابة القاعدة الخلفية للمقاومة الوطنية ضد المستعمر الفرنسي.
في مدينة النعمة ولد عام 1824م العلامة الشريف جعفر بن المهدي وهو جعفر بن المهدي بن مولاي عبد الله بن سيدي محمد بن مولاي صالح بن مولاي الشريف بن سيدي حمُ بن الحاج مولاي الحسن بن سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن مولاي محمد بن مولاي علي الشريف السجلماسي.
تلقى جعفر تعليمه على مشايخ محاظر المدينة وخاصة محظرة أهل الكصري الإدلبية الجكنية الشهيرة، وهو أحد كبار علماء القرن التاسع عشر في المنتبذ القصي كان فقيها عالما ومؤرخا نسابا وصوفيا قادريا، ذو كرامات ومكاشفات.
عرف بالزهد والتقوى والتواضع. وقد مكنته مكانته العلمية الرفيعة من لعب دور ثقافي وسياسي كبير في المنطقة، وكان من المراجع المعتمدة في القضايا العلمية والمعرفية يظهر ذلك جليا في الكم الهائل من الفتاوى والرسائل التي خلفها
يصف العلامة محمد يحيي بن سليمة اليونسي النعماوي العلامة جعفر بن المهدي في مخطوط له انه "أعلم أهل زماننا" كما يصفه بالعلم محمد يحيي بن محمد المختار الولاتي الداوودي وكانت له معه مناظرات عديدة وللولاتي بعض القصائد يمدح بها جعفر بن المهدي. وكذلك شيخ الطريقة الصوفية الفاضلية الشيخ الحضرامي بن الشيخ محمد فاضل القلقمي. وشيخ الطريقة الغظفية الشيخ سيدي اعل بن الشيخ محمد لغظف الجعفري الداودي.
وكانت لابن المهدي مراسلات علمية كثيرة مع الشيخ عبد القادر الكوناني ومع بعض مشايخ كنتة خاصة المختار ولد الشيخ سيد البكاي في أزواد إلى جانب علماء آخرين من خارج المنطقة مثل العلامة عيسى بن احميدة الغدامسي ليبيا وعبد الرحمان التيطي الجزائري هاجر الشيخ العلامة جعفر من موطنه النعمة إلى مدينة كالا في مالي عام 1869م. وكان جعفر يدير منها قوافله التجارية التي يعتبرها المؤرخ الفرنسي بول مارتي السبب الرئيس في هجرته إلى هناك، ولبث بها فترة طويلة شهدت المنطقة خلالها أحداثا كبيرة، خاصة وانه وصل تلك المنطقة في أوج حروب فوتة التيجانيين مع ماسنا القادريين المدعومين من قبيلة كنتة بآزواد، ومع أنه كان مقربا من القادرية إلا أن علاقته بالتيجانين الفوتين لم تتأثر بتلك الحروب التي ظل محافظا على الحياد التام فيها.
وقد دعاه الامير الفوتي أحمدُ بن الحاج عمر الفوتي إلى مقر ملكه وأكرم وفادته علما بأنه مقرب من كنته خصوم فوته، غير أن مواقف الرجل كانت أقرب إلى الحياد في قضية فوتة والتيجانية بعيداعن المواجهة أو الانتقادات أو حتى التشكيك في جهادهم، كما فعل البعض من علماء القادرية
لقي بن جعفر في رحلته من مدينة كالا إلى تمبكتو القائد الكنتي سيد أحمد البكاي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيد المختار، وكذلك لقاءه مع الأمير الفوتي أحمٌد بن الحاج عمر ، واستقباله لوفد فاس عام 1279م، الذي يضم شابا علويا من المغرب مصحوبا برسول السلطان.
وفي وثيقة تاريخية يتحدث جعفر عن هذا الوفد ويذكر بعض الهدايا التي قدمها الوفد له:
"الحمد لله بسم الله اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم هذا تقييد لما وجدت من الأدوية عند ركب فاس الوافد إلينا في كالا، ليلة الأربعاء إحدى عشر من رمضان 1297 هجريـة، وهو الشريف مولاي علي بن أبي طالب شاب صغير، وحكيم أفندي التركي الأسطمبولي رسول السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد، ومعهما فتى يسمى عبد الله من تطوان، وخادمهم رجل أبيض يقال له قدور وغلام مراهق اسمه فرج، من عبيد البخاري على منكبه طابع السلطان.. وجدت منهم أقلاما من الحديد، وقلمين يكتبان بلا دواة، وكتاب كنوز الأسرار وشموس الأنوار لأبن الحاج التلمساني، وبصارات خضراء ينظر بها في الشمس ترد وهجها عن العين. والأدوية المذكورة، كل دواء منها في صرة بيضاء من الشاش، وعلى كل صرة مكتوب اسم ما يستعمل ذالك الدواء له. فأما الذي يشرب بعد الطعام، فهو دقيق أبيض، ذكروا لي أنه يجعل منه شيء في الماء يذاب فيه ويشرب بعد أكل الطعام. والصرة المكتوب عليها للدم، فيها شيء بين الصفرة والحمرة كأنه الذي نقول له في عرفنا "خبيط القرن"، الذي تزند به النار، فإذا أردت ترقية الدم فخذ منه شيء واجعله على فم الجرح فإن الدم ينقطع. وأما المكتوب عليها دواء الجرح، ففيها عجين يلصق بالدم كالبخارة عندنا ،تأخذ منه شيء وتجعله على خرقة وتسخنه على النار حتى يذوب وتلصقها بالجرح. والمكتوب عليها للرمد فيها دقيق أبيض كلون الذي ذكرنا أنه يشرب، يجعل منه قليل جدا في الماء ويقطر في العين لجميع وجعها، وطعمه حار في الفم. وأما الذي في الكاغد الأصفر دقيق أملس يجعل شيء من من دقيقه في العين يذهب بياضها. والذي كطعم أكنات حجارة بيض حارة في الطعم، تذاب في السكر في ماء لمن به مرارة الفم من الحمى، وأخرى فيها كافور وهو حجارة بيض كأبيض ما يكون من الملح. وما في الكواغد البيض المكتوب على إحدى دواء الحمى فهو دقيق أبيض يؤخذ منه نصف كاغد يذاب في الماء ويشرب هكذا حدثوني والسلام.
كما لقي جعفر بن المهدي في مدينة سكولو المالية الرحالة النمساوي " أوسكار لانز OSKAR LENZ " سنة 1880 م ودفع عنه ضريبة كبيرة لحاكم المدينة وقد تحدث بول مارتى عن لقاء جعفر ولانز بالقول "جعفر حيدر الذي استقبل لانز أثناء مروره بسكولو عام 1880..لا نز يمدحه ويشكره على المساعي الحميدة التي قام بها..ويصفه بأنه كان محمود السيرة وذكيا وواسع الصدر..وكان مشهورا في البلد وكبيرا فيه ولم يكن يخشي من قول الحق..وكانت له شخصية بارزة جريئا لا يطأطئ رأسه ولا ينحني أمام الحكام
ويقول عنه "لم يستقبل جعفر لانز في منزله بل استقبله في دار أحد عبيده، ولما أراد الحاكم أخذ ضريبة من لانز باعتباره أجنبيا اعترض عليه الشريف جعفر وأعطاه هدية مقابل أن يخلصه منه ".
وفي سنة 1887 أنتقل جعفر إلى مدينـة كيرى وهي إذ ذاك وثنية فركز جهوده على الدعوة إلى الله وقد ساعده اعتناق حاكم المدينة ماسيرى كيتا للإسلام(الجد المباشر لرئيس جمهورية مالي السابق مديبو كيتا) مما جعل المدينة تسلم، ومن كيرة انتشر صيته وتوافد عليه المنضمون إلى الإسلام من المناطق الجنوبية التابعة لإمارتي سكرا ومركبوك وقام بجولة شهيرة قادته إلى منطقة فريكنة وخاصة إمارات –مركبوك- نكوطلة- اندلك بوكو- حيث استقبل بحفاوة وفتح الله له أبواب وقلوب أهل المنطقة،
ومن أشهر من اسلم خلال هذه الجولة الطاغية أنضوا جرا امير مركبوكو ومماري دوابا كما نجح في إخماد نار الحرب الضروس بين إمارات مركبوك ودلكبوك وبين ادونكل وانيافات" مما مكنه من تامين الطرق للمتنقلين المسلمين الشناقطة حيث حصل على التزامات من أهل تلك المناطق بعدم الاعتداء على كل من له صلة به مهما كان حتى ولو كان من إمارة أو مدينة معادية سابقا، وكانت طرق القوافل قبله مقطوعة في هذه المنطقة بسبب عقوبة الإعدام التي تطبق على كل مسلم يعثر عليه.
كانت له حلقات تدريس للطلاب وكانت له جلستان منتظمتان أولهما في الضحى والثانية في المساء بعد قراءة البخاري في المسجد "وهو تقليد في مدينتي النعمة وولاتة " وكان يمنح الإجازات ، وممن اخذ عنه من المشاهير :-حدين بن الحبيب بن الكصري الايديلبي الجكني، و الشيخ عال ولد آف الدليمي، ومولاي الحسن الملقب باب حسن بن مولاي عبد الله، والشيخ براهيم، وعمر قما، وكذلك أبناؤه خاصة ابنيه عبد المطلب ومولاي علي الذين برعا في القرءان وعلومه.
ومن آثاره العلمية مجموعة ضخمة من الفتوى والأشعار والتأليف في الفقه والتاريخ واللغة والمنطق وقد ذكر المختار ولد حامد في موسوعته أنه من قلائل الموريتانيين الذين ألفوا في التاريخ، ومن أهم آثاره في التاريخ : تحفة الظرفاء في أسماء الملوك والخلفاء، وتاريخ مالي والتكرور، وتذييل على تاريخ الخلفاء للسيوطي.
وله في الفقه كتاب "الجمعة " وجوب صلاة الجمعة على سكان مدينة ولاتة التاريخية ، وأجوبة في الفقه والمنطق،وشرح رسالة بن أبي زيد القيرواني،و فتاوى كثيرة ومتعددة حول أحكام القضاء، الرق، النكاح، النشوز،وحكم صلاة الجمعة لأهل قرية ساسنديغ في مالي، وشرح مختصر الاخضري وهو عبارة عن تأصيل للكتاب، ورسالة مطولة في القضاء موجهة إلى العلامة محمد يحيى بن محمد المختار ولد أهل بٌ الداوي المعروف بالولاتي.
وله في اللغة: شرح حاشية الأدمسي و"نظم لمقدمة القاموس" ومجموعة قصائد شعرية في المواعظ والرجاء والنصح.
وفجر الجمعة 14 من شهر صفر 1311 هـ - الموافق 27 أغسطس 1893 م أسلم الشيخ جعفر الروح لباريها بعد مسيرة علمية حافلة.