التراجع عن الفتوى أو المذهب الفكري برمته، أمر أثار جانبا من الجدل مؤخرًا لمواقف عدد من دعاة وعلماء مسلمين أعلنوا تراجعهم عن بعض فتاواهم وآخرون تراجعوا عن مذهبهم برمته، من أشهرهم الدكتور عائض القرني وتيار الصحوة السعودي واعتذاره للسعوديين عما وصفه "بالتشدد" الذي أثبت خطؤه، وأحدثهم الشيخ أبو اسحاق الحويني الذي اعلن عن ندمه عن بعض ما قاله و"تسرع" فيه رغم عدم اكتمال علمه استعجالًا منه لطلب الشهرة على حد قوله.
لم تكن تلك المواقف أمرًا غريبًا وحديثًا في التاريخ الإسلامي، فهناك نماذج أخرى شهيرة تراجعت عن مذهبها كلية أو بعض منه أو بعض الفتاوى والقضايا، وأشهر هؤلاء هو الإمام الشافعي.. بين المذهب القديم والحديث تضخمت كتب الفقه الشافعي، لتخبرنا أن للشافعي آراء وفتاوى في العراق مختلفة عن تلك التي قالها في مصر تصل لدرجة التناقض وفق (مصراوي).
محمد بن أدريس الشافعي، هو ثالث الأئمة الأربعة ومؤسس علم أصول الفقه، وصاحب المذهب الشافعي المتميز في الفقه الإسلامي، وأهم ما ميزه هو اختلاف آرائه الفقهية بين مذهبه حين كان في العراق وحين وفد إلى مصر، ويروي لنا الدكتور عبد الحكيم الرميلي في كتابه "تغير الفتوى بتغيير الاجتهاد" قصة ذلك التغيير حيث كانت للشافعي آراء وفتاوى فقهية قديمة جمعها في كتاب "الحجة" وقد صنفه بالعراق سنة 195 هجريًا، وهو ما يطلق عليه "القديم" في مصنفاته أو في فتاوى مذهبه، والجديد هو ما كتبه وأفتى به في مصر عام 199 هجريًا فألف له كتابًا جديدًا وأطلق عليه اسم "المبسوط" لكنه اشتهر فيما بعد باسم كتاب "الأم" .
وقال الشافعي عن هذا التغيير كلمته المشهورة: "لا اجعل في حل من روى عني كتابي البغدادي" حيث تراجع عن عدد من فتاويه التي كانت فيه "بتغير علمه واجتهاده وتجديده" حسبما عبر الرميلي، وذكر أن مذهب الشافعي الجديد لم يكن نسخًا لمذهبه القديم وإنما هو امتداد له وتطور له، فقد بني تغيير مذهب الشافعي على عدة أسباب، ويفصل سلمان عودة تلك الأسباب لنا في كتابه "مع الأئمة":
بسبب الاجتهاد، فالعالم يظل يجتهد حتى وفاته، يقول عودة، مؤكدًا ان الاجتهاد من الثوابت التي لا تتغير وإن كانت نتائجها لا ثبات لها بل على العكس هي عرضة للاختلاف
لأنه جلس مع العلماء المصريين وأخذ عنهم وسمع حديثهم، فاخذ من تلاميذ الليث بن سعد وغيره.
أنه وجد في مصر حالات جديدة من الأوضاع العلمية والعملية والاجتماعية فتولد عنده "نوع من الفهم الجديد"، حيث عرف أشياء لم يعرفها ولا يعرفها أهل العراق.
بالتجربة الجديدة والبيئة الجديدة زاد عقله ونضج ونمت تجربته بالسن ومخالطة الناس ورجال العلم، وحين سئل ابن حنبل عن كتب الشافعي ايهما احب إليه التي كانت في مصر أم العراق فقال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر، فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها، ثم رجع إلى مصر فأحكم ذاك.
ويسرد الرميلي عدة مسائل اختلفت في المذهب الشافعي من القديم إلى الجديد ومنها:
مسألة الماء المستعمل في فرض الطهارة، هل يبقى على طهوريته فيكون طاهرًا مطهرًا؟ أي هل يمكن استخدام ما تبقى من ماء الوضوء في الوضوء مرة أخرى؟
أفتى الشافعي حين كان في العراق بأنه طاهر، لكنه في الجديد خالف فتواه السابقة وافتى بانه غير طهور وإن كان طاهرًا، وقال:" وإن توضأ رجل ثم جمع وضوءه في اناء نظيف ثم توضأ به لم يجزه، لأنه أدى به الوضوء الفرض مرة، وليس بنجس".
ولم يكن تغيير الشافعي لفتواه عبثًا، بل كان في فتواه الأولى مستندًا إلى أدلة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ فمسح رأسه بفضل ماء كان في يده، لكنه حين جاء إلى مصر وجد أن أدلته ليست قوية وأقل دقة، فكان في إسناد الحديث عن عبد الله بن محمد بن عقيل وكان منكر الحديث، خاصة ان هناك حديثًا آخر عن مسلم يقول عن عبد الله بن زيد: أنه رأى النبي يتوضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه، وغسل رجليه"، أي أنه أخذ ماءًا جديدًا فمسح رأسه ، فهكذا غير الشافعي فتواه في مذهبه القديم.
أكل لحم الإبل ونقض الوضوء
للشافعي في هذه المسألة ثلاث فتاوى، أولها في العراق حيث افتى بأنه لا ينقض الوضوء، ثم بعد ذلك تراجع عن تلك الفتوى وهو في العراق وفي مذهبه القديم وقال انه ينقضه، وعندما جاء مصر، عاد لرأيه القديم فأفتى بأن لحم الإبل لا ينقض الوضوء..
حيث أفتى الشافعي بالعراق بأن أكل لحم الجزور "الإبل" ينقض الوضوء، لما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ، قال اتوضأ من لحوم الإبل قال نعم، فتوضأ من لحوم الإبل".
وفي مصر غيّر الشافعي فتواه وعاد إلى رأيه القديم بعدم نقض أكل لحم الإبل للوضوء، حيث استند في ذلك لحديث جابر عن رسول الله أنه ترك الوضوء مما مست النار، خاصة أن الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة لم يثبت عند أحد منهم انه توضأ من أكل لحم الجزور.
الشافعي.. فيلسوف اللغة والمعاني والفقه
"الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه" هكذا أثنى الإمام أحمد بن حنبل على الإمام الشافعي رحمه الله، والإمام الشافعي ولد بنفس العام الذي توفى فيه الإمام أبو حنيفة وهو عام 150 هجريًا، حتى قيل في نفس اليوم الذي توفى فيه، وكان ذلك في قطاع غزة بفلسطين، حفظ القرآن الكريم وعمره سبع سنوات، وحفظ موطأ مالك وعمره عشر سنين، ويقول عن نفسه: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها.
كانت الوشاية هي طريق دخول الشافعي لبغداد، حيث يروي سلمان عودة قصة ارتحاله للعراق ذاكرًا أن وشاية وصلت إلى هارون الرشيد تتهمه بالتآمر على الدولة العباسية، وحين ألتقى به قال: "يا أمير المؤمنين، أنا لست بطالبي ولا علوي، وإنما أدخلت في القوم بغيًا علي، وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك..." وكان ذلك سببًا في بقاء الشافعي ببغداد لعامين أو اكثر، ثم عاد إلى الحجاز، واقام فيه تسع سنوات، ثم جاء لبغداد مرة أخرى وألتقى بابن حنبل هناك، ثم بعد ذلك أنتقل إلى مصر حيث استقر بها حتى وفاته.