الأمانة من أنبل الخصال , واشرف الفضائل وأعز المآثر,والتي يحرز بها المرء الثقة والإعجاب,وينال بها النجاح والفوز في الدنيا والآخرة وكفاها شرفا أن الله تعالي مدح المتحلين بها : فقال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) سورة المعارج ،وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) سورة الأنفال.ولنستشعر هذا التناغم اللفظي والمعنوي بين الإيمان والأمانة، ففي الحديث: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).
فالأمانة من الأخلاق الفاضلة وهي أصل من أصول الديانات ، وعملة نادرة تسعى لإقتنائها الشعوب والدول ، وهي ضرورة للمجتمع الإنساني ، لا فرق فيها بين حاكم أو محكوم ، أو صانع وتاجر ، أو عامل ومزارع ، ولا بين غني وفقير ، أو رجل و امرأة ، فهي شرف للجميع ، ورأس مال الإنسان ، وسر نجاحه ، ومفتاح كل تقدم ، وسبب لكل سعادة.
الأمانة هي أداء الحقوق والمحافظة عليها وهي خلق جليل من أخلاق الإسلام. فيجب علينا أن نؤديها كما أمر في نص القرآن والسنَّة. والأمانة ليس لها حدود .
من هذا منطلق ندرك أهمية الأمانة كبشر قبلناها وتحملنا ثقلها في الوقت الذي نأت بحملها السماوات والأرض والجبال. قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) سورة الأحزاب.
من شواهدها أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قبل بعثته وُصفَ بالصادق الأمين. وجعل الرسول الأمين الأمانة دليلاً على إيمان المرء وحُسن خُلقه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: (لا إيمان لمن لا أمانة له). و قال عليه الصلاة والسلام : ( أوَّل ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة )
والأمانة ليست أمراً مستغرباً على النفوس، فهي تعرفها من دينها، بل هي فطرة فُطر الإنسان على معرفتها، فقد يوافقه مرة وأخرى يخالفه.. فعن حذيفة قال: حدّثنا رسول الله حديثين رأيت أحدهما أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال (أي أصلها) والله سبحانه وتعالى يحب المؤدي لأمانته التي أوكل بها في نفسه وأهله وعمله ووقته. إنها محبة الله لا شيء أغلى منها.. لا يستحقها إلا الأمين. قال عليه الصلاة والسلام: (من سره أن يحبه الله ورسوله فليصدق في حديثه إذا حدّث، وليؤد أمانته إذا أُتمن).
يا من وُلِّيت عملاً يتعلق بالناس وبمصالحهم! إياك أن تتهاون في مثل هذه الأمانة؛ أنجز للناس معاملاتهم، واقض لهم حوائجهم في وقتها وعلى أكمل وجه….
ومن خصال أهل النفاق: الخيانة في الأمانات، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان متفق عليه، فلا يجوز للمسلم أن يتشبه بأهل النفاق، بل يجب عليه أن يبتعد عن صفاتهم، وأن يحافظ على أمانته، وأن يؤدي عمله بغاية العناية، ويحفظ وقته ولو تساهل رئيسه، ولو لم يأمره رئيسه، فلا يقعد عن العمل أو يتساهل فيه، بل ينبغي أن يجتهد؛ حتى يكون خيرًا من رئيسه في أداء العمل والنصح في الأمانة، وحتى يكون قدوة حسنة لغيره.
إنها الأمانة -يا عباد الله- التي تتطلب من الموظف أن يؤدي عمله بإتقان، وفي وقته، دون تأخير أو تعطيل، أو تلاعب أو تساهل، أو إخلال أو تقصير.
وأما إهدار المال العام فإنه يتمثل في صور كثيرة من سوء استخدام صلاحيات البعض، ومن عدم مراقبة الله تعالي فيما يعمل وفيما يأخذ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( من استعملناه علي عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ) (رواه أبو داود).
وكم نرى ونسمع عن ذلك الموظف أو العامل أو المدير أو الوزير او أي منصب كان وهو يعتدي على مال الوظيفة وممتلكاتها دون وجه حق سواء كان مال خاص أو مال عام .. في شركة أو وزارة أو مصنع أو مصلحة فأين الأمانة ؟ وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحمل الغالون يوم القيامة ما غلوه في أكثر من حديث، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه ، وعظم أمره ، ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك .
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً قد أبلغتك .
لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً ، قد أبلغتك ... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك ... لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (الذهب والفضة) ، فيقول : يا رسول الله ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك " ( متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم ) وصدق الله إذ يقول (( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ آل عمران : 161 ] .
فالواجب على الموظف أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص، وعناية وحفظًا للوقت؛ حتى تبرأ الذمة، ويطيب الكسب، ويرضي ربه، وينصح لدولته في هذا الأمر، أو للشركة التي هو فيها، أو لأي جهة يعمل فيها.
هذا هو الواجب على الموظف: أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة بغاية الإتقان وغاية النصح؛ يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويعمل بقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
إن من بين السلبيات التي تجعل المجتمع في تراجع 'الخيانة في العمل وعدم الوفاء بأمانة العمل' إما عن طريق أن يوسد العمل إلي غير أهله وإما بإهدار المال العام وكلاهما أبشع أنواع الخطر علي تقدم المجتمع. أما توسيد العمل إلي غير أهله فيترتب عليه خلخلة المؤسسة أو الإدارة وعدم استقرارها وثباتها، وفي التأكيد علي المحافظة علي الاستقرار كان توجيه الإسلام واضحا في بيان أن الأمر إذا وسٌد إلي غير أهله فلننتظر الساعة كناية عن إنتهاء الحياة والاستقرار وعندما سئل الرسول صلي الله عليه وسلم عن الساعة وقال له رجل: متي الساعة؟ قال: ( إذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة، فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: 'إذا وسٌدّ الأمر لغير أهله فأنتظر الساعة' ) رواه البخاري.
الأمانة بهذا المعنى، سر سعادة الأمم أو شقائها، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب فى الأمانة والوفاء بها، كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس
إن أمتنا الحبيبة بحاجة ماسة إلى الموظفين والعمال الأمناء؛ لأنهم من أسباب رقيها وتقدمها وصلاح أحوالها. فاتقوا الله-أيها الموظفون والعمال- في أعمالكم ووظائفكم بأداء الأمانة فيها؛ لأنكم مسؤولون عما تعملون.
عبد الرحمن الطالب بوبكر الولاتي