الكزرة: اسم يطلق على الأحياء الشعبية في نواكشوط، وأصله "كزر" (في العامية)، ويعني اغتصاب جزء من الأرض ، حيث كان بعض ساكنة العاصمة القادمين من أعماق الصحراء يحتلون مواقعا في أطرافها، ويبنون عليها بعض الأعرشة والأكواخ في انتظار تشريع الدولة لأماكنهم تلك ! مما نجم عنه زيادة في قبح العاصمة وعشوائياتها ! وإلى القصة..
يقولون إن الفقر يلجم الصالحين فيمنعهم من الكلام، ويدفعهم إلى الإنزواء بعيدا عن الأنظار، فيجلسون في أماكنهم النائية صامتين منتظرين الرحمة دون تحريك ساكن ! يجوعون ويحزنون وتنهمر دموعهم كلما عجزوا عن كبتها لتختلط بأنين القهر والحسرة والألم.. تراهم في "كزراتهم" المتهالكة يصارعون البرد والجوع والحر منتظرين معجزة تنتشلهم من ذلك العناء !
كانت ليلة صيفية مظلمة لم يتوقع أن تهب فيها تلك العاصفة المتبوعة بذلك المطر الشديد.. خرج من قصر أهله في "تفرغ زين" باحثا عما يشبع به جوعه الغريزي كعادته في كل ليلة مرددا جملته المعهودة التي اعتاد على ترديدها كلما خرج: "في مكان ما من هذه المدينة المتسخة، توجد امرأة فاتنة تحتاجني وأحتاجها"..
كان رجلا في منتصف العمر، أمضى شبابه بحثا عن لمسات مختلسة، وضحكات رنانة يغذي بها نهمه الشيطاني الذي يملأ نفسه !
كانت الغيوم تتجمع في السماء لحظة خروجه، فأدار محرك سيارته الجميلة التي اهدته إياها والدته رغم كِبره، وبدأ جولته المعهودة التي تستمر من المغرب حتى ما بعد منتصف الليل !
لم يكن في ذلك اليوم محظوظا، فلم تستجب لمغازلاته المختلطة بضحكاته المفتعلة أي امرأة.. مر الوقت سريعا دون أن تنجح محاولاته المستمرة في جلب صيد .. أخيرا قادته عجلات سيارته إلى "كزرة" نائية متناثرة فوق كثبان رملية لم يطأها بقدميه من قبل، أوقف سيارته على حافة الطريق العام وترجل منها هامسا لنفسه: لم لا أستخدم وسامتي وأرجلي ؟ وعلى رأي ذلك الصديق الذي كان يكره تميزي عليه بهذه السيارة الجميلة، لم لا أنزل وأتمشى بدل الإعتماد عليها !
أفرغ عليه ما بقى من زجاجة العطر الغالي التي بحوزته، وأطلق لقدميه العنان متبخترا كعادته، كأن الأرض تنبض من تحت قدميه ! كانت قطع الدومينو القبيحة التي تتكون منها الكزرة تلوح كأشباح هامدة في الظلام، وكان تمييز الطريق أصعب ما واجهه من عقبات، حيث كان غير العارف بالمسالك والممالك، يضطر أحيانا إلى اقتحام بعض الكزرات على أصحابها، فوجد نفسه فجأة واقفا على رؤوس أسرة تتعشى بالأرز واللبن، فسلم مخترقا نحو كرزة أخرى ! لاعنا أبو الغبي الذي صمم الكزرات، وأخيرا وجد نفسه تحت شجرة نائية في ذلك الظلام الذي زاده تراكم الغيوم حلوكة..
تعالى أذان صلاة العشاء من بعيد مختلطا بأضواء البرق الذي أضاء الدنيا من حوله، فذكر اسم ربه خوفا من المردة والعفاريت، ورفع رأسه نحو السماء متذكرا ذنوبه ! هتف لنفسه: ها أنا ذا ضائع كالعادة في أطراف نواكشوط ! تذكر قول المغاربة: "اللي يتبع لقحب يبات في الزنقة"..
دوى الرعد مزلزلا الكزرة وما عليها، وبدأت بوادر العاصفة تعبث بما حوله.. همس لنفسه: هكذا يتغير الحال بلا مقدمات فإلى متى أظل ضائعا في هذه الطريق ؟ أأنتظر اليوم الذي لا أجد فيه ما يؤيني من الحساب ؟
همس لنفسه: ستكون آخر مرة يراني فيها أحد ضائعا في الكزرات !
دعا ربه في تلك اللحظة أن يرزقه الزوجة الصالحة والأولاد، والمزيد من المال..
هبت العاصفة في تلك اللحظات متحدية الوجود، واختلط حابل الكزرة بنابلها..
أدار نظره بحثا عن ملجأ يأوي إليه هربا من تلك المعمعة ، فلاح له شبح امرأة تحاول تثبيت سياج كزرتها المقام بأعواد وأقمشة بالية، فانطلق نحوها مسرعا..
كانت المسكينة تصارع الريح بعجز، فسلم عليها ورمى بنفسه في السياج بلا مقدمات ، وبدأ في تثبيته بسرعة البرق، وبعد قليل بدأ المطر ينهمر فأسرعت المرأة نحو الكوخ محتمية به، فهم بالعودة إلى شجيرته، فنادته بحياء: أسرع بالدخول لا يصيبك المطر، فتبعها.
تأمل محتويات الكوخ فإذا بفراش رث وبقايا صحون وكؤوس متسخة، وثلاث بنات صغيرات مشرقات أكبرهن في الثانية عشرة من عمرها.. كان الكوخ والسياج المتهالك إضافة إلى "بنطرة" لا يتجاوز عرضها المترين، كل ما تقوم عليه تلك الكزرة البائسة !
جلس في وسط الكوخ وهو يبتسم للأعين التي تأملته باستغراب.. كانت رائحة العطر النفاذة قد طغت على الكزرة كلها فما بالك بكوخ حُشر فيه حاملها !
أحس بعطف شديد على البنات وصاحبتهن التي اندفعت رغم المطر نحو البنطرة لتعود ببعض المعدات صنعت له بواسطتها شرابا سائغا لم يذق مثله في حياته !.. تأملها للحظة بحثا عن وجهها، فلم يستطع تبين معالمه بسبب الإضاءة الخافتة التي انبعثت من شمعة يتراقص ضوؤها متحديا الظلام..
سألها: أليس معكن رجل ؟ كانت مطرقة طوال الوقت لم ترفع رأسها إلا عندما سلم عليها عند السياج.. أجابته: لا ؟ سألها: لماذا ؟ فسكتت.. هتفت البنت الكبرى: نحن أيتام، وهذه أختنا التي ترعانا !
إلتفت إليها بإشفاق، وقال: هل أنت موظفة ؟ أجابته: لا، أنا عاطلة عن العمل !، لكن في "البنطرة" خير !.. هتف كاذبا على نفسه كعادته: عاطلة عن العمل في عهد "رئيس الفقراء" !!وجد نفسه يفكر في الموالاة والمعارضة ، ثم رمى بالفكرة في الزبالة ووطأها بقدمه في خياله، ثم دقق بنظره في المرأة.. كانت من فصيلة النساء اللواتي يحلم بهن لولا وجهها المخفي الذي لم يستطع رؤيته، ولأول مرة في حياته وجد نفسه يفكر فيما ينفعه بدل ما يضره..
بدأ المطر في الإنحسار، وهب نسيم بارد منعش أنعش الكزرة ومن فيها، سأل الفتاة: هل أنت متزوجة ؟ كان السؤال مباغتا إلى درجة أنها رفعت وجهها إليه، ولأول مرة أحس بأنه عثر على صاحبته (سأترك الوصف لخيالك المجنون)..
سمع ضحكات خافتة في الكوخ، فالتفت إلى مصدرها، فرأى السعادة تتلألأ في وجوه الصغيرات ابتهاجا بالنسيم العليل المنعش للأرواح، ابتسم لهن ثم عاد بنظره إلى صاحبته التي عادت بوجهها إلى الأرض، أعاد السؤال عليها ثانية، فهتفت الكبرى: لن تجيبك، مشكلتها أنها لا تتكلم كثيرا !
صاحت فيها: اصمتي !
كان المطر قد توقف تماما في تلك اللحظات، ارتفع صوت الإقامة منذرا ببدء الصلاة، فهب واقفا، وشكر الفتاة على المأوى الذي قدمت له، ووعدها بالرجوع، وانطلق ليلحق الصلاة..
كانت الغشاوة التي تحجب السماء تنزاح شيئا فشيئا كالغشاوة التي تغلف قلبه، فبرز البدر من بين الغيوم منيرا الدنيا، التفت إلى الكوخ فرأى صاحبته متسمرة على مدخله وحولها البنات، ينظرن إليه برجاء !
ابتسم، ولوح لهن بيده، وخطا نحو المسجد الصغير، وقد قرر أن يتجاوز كل العراقيل المبثوثة في طريق حياته، والتي تحول بينه وبين فعل الصواب..