بعد تفكك دولة المرابطين في أواخر القرن الخامس الهجري- القرن الحادي عشر ميلادي، احتفظت ذرية الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني وأخيه يحيَ بن عمر اللمتوني بزعامة محلية في وسط المنتبذ القصي حتى الحوضين في الشرق ولعصابه في الجنوب ولبراكنه شرقا.
وتزامن قدوم بني حسان إلى هذه البلاد مع ضعف التكتلات اللمتونية وتقلص حدود نفوذها، إلا أنهم ظلوا متمركزين في هضاب تگانت صامدين أمام الهجمات الحسانية.
ويروي أبو التاريخ الموريتاني العلامة المؤرخ المختار بن حامد، أن اوديكه بن آكر بن بگه المعروف بـ (آگر أن بگه) بن أنمر بن عثمان وهو من أحفاد يحيَ بن عمر اللمتوني قام في بحر القرن السادس عشر الميلادي بإخفاء ابنه بنيوگ عند أسرة علوية في شنقيط خوفا عليه من بطش بني حسان، فصار الرجل العلوي يقول لأبنائه إنه أخوهم، فلقبوه (خونَ).
ما إن شب “خونَ” حتى ظهرت عليه مخائلُ الحكمة والشجاعة، ففكر في لم شمل قومه وتوحيد كلمتهم، ودخل في صراعات مع بني حسان(خصوصا أولاد امبارك وأولاد الناصر) تمكن بعدها من إرساء قواعد قوة لمتونية صاعدة تنافس القوى الحسانية.
كان ذلك الحدث إعلانا لقيام إمارة (الأنباط) أي الزعماء بالصنهاجية الذين عرفوا عند مجتمع البيضان بـ (إدوعيش) وهي نسبة استمدوها من جدهم آگر أن بگه لأن آگر تعني بالصنهاجية (يعيش) من باب التفاؤل، فمعنى إدوعيش (أبناء يعيش).
امتد نفوذ إمارة الأنباط من المجابات الكبرى في الشمال والشمال الشرقي إلى “الجام آدرار” في الشمال الغربي إلى أگان غربا إلى گورگل لبيظ جنوبا إلى أفله في الجنوب الشرقي، وعرفت عنهم حدة الشوكة وشراسة الفعلة والنخوة، وتعاقب على حكم هذه الإمارة:
-امحمد بن خونَ: ورث امحمد زعامة والده وواصل سياسته لبناء الذات فأقام تحالفا مع أولاد امبارك لتخفيف المهمة عليه، وزوج ابنتيه العاليَه وعيشَه لهنون لعبيدي أمير أولاد امبارك، وهو من قام برسم حدود إمارته وأجبر المجموعات الحسانية على الاعتراف بها، وكانت وفاته في أواخر القرن السابع عشر الميلادي أو بداية الثامن عشر.
-أعمر بن امحمد بن خونَ: وقع في عهده الشقاق بين إدوعيش وأولاد امبارك وجرت بينهم وقعات أظهرت مهارات إدوعيش القتالية، وكانت وفاته في حدود 1732م.
-اعلي بن امحمد بن خونَ: لم يدم الاستقرار في عهده حيث أن ابن أخيه بكار بن أعمر نازعه الحكم، وكانت وفاته سنة 1757م.
-بكار بن أعمر: تمددت الإمارة في عهده جنوبا حتى النهر فسميت منطقة (باكل)(تحريف بكار) باسمه وسميت منطقة سيلبابي باسم ابن أخيه عثمان بن اعلي بابي فأصلها (احسيْ ول اعلي بابي) ثم تحولت عبر النطق إلى (سي ول اعلي بابي) قبل أن تستقر على اسمها الحالي (سيلبابي)، وفي عهد بكار هذا جاء أخوه اعلي بابي بن أعمر بالفنان الشهير والأديب الكبير سدوم بن انجرتو من مضارب أولاد امبارك بعد أن اشترط الأخيرُ عليه شروطا قاسية صار أهل تگانت يضربون بها المثل فيقولون للشيء الغالي الثمن (هذا الا كريت سدوم)، كما قام في عهده الصراع بين إدوعيش وأولاد امبارك توج بجلاء الأخيرين عن تگانت، وكانت وفاة الأمير بكار سنة 1761م.
-امحمد شين بن بكار: كان صلب العزيمة شديد الشكيمة، واصل الصراع مع أولاد امبارك بدموية أعنف، فقرر جمهور لمغافره التصدي لخطره وتألبوا على حربه.
وفي سنة 1778 أقبل أولاد الفحفاح أي أولاد امبارك، وأولاد لغويزي ومعهم أولاد الناصر من الحوض، وأولاد يحي بن عثمان وأولاد غيلان من آدرار، وجاءت البراكنة و الترارزة من آفطوط والگبله.
اجتمعت جموع عساكر الإمارات الحسانية المتحالفة للقضاء على الإمارة اللمتونية عند موضع (أوس) والذي سيعرف فيما بعد هذه الواقعة بـ (احنيكات بغدادَه) وحطوا رحالهم فوق الهضبتين الشرقية والغربية وحاصروا إدوعيش المتمنعين في أسفل الوادي والكهوف بين الهضبتين.
دام الحصار ستة أشهر كما جاء في قصيدة سدوم ول انجرتو المشهورة المعروفة بـ (أم الرثم).
ضاق الحال أول الأمرعلى إدوعيش، ولكن الأمير امحمد شين، وجدّو ولد أحمد العلوي أبرما اتفاقية مشهودة، باسم إيدوَعلي وإدوعيش لولاها لكان جيوش المغافرة قضت علي ادوعيش وإلي الأبد.
بموجب هذه الإتفاقية تكفل جدّو ولد أحمد، وهو آنذاك كبير جماعة ادوعلي وأغني رجل في تگانت، تكفل لإدوعيش بمؤونة رجالهم وخيلهم طعاما أوشرابا طيلة الحصار، وأنجز وعده ، فنظم حملة لجمع نوي التمرعرفت بـ (حملة لعلف) لتغذية الخيل و كلف بها نساء لكصر وشبابه.
وأما الرجال فتكفلوا بتأمين التمر والقمح والشعير والذرة واللحوم.
وتكفل امير ادوعيش وجماعته لجدّو ولد أحمد وقومه أنهم إن خرجوا من محنة هذا الحصار سالمين أنهم سيتحملون حماية اكصر تجگجة و قوافل إديوَعلي التجارية الذاهبة من و إلي اكصور السودان جنوبا، وأن ذلك يبقي التزاما ودينا عليهم وعلي ذراريهم إلي أبد الآبدين .
والبند الثالث وهو الأهم إعفاء إيدوعلي من الغفر وهو ضريبة يعطيها أهل لكصور لمن يليهم من أهل الحرب مقابل الحماية.
بفضل هذه الاتفاقية تمكن إيدوعيش من الصبر علي الحصار مدة ستة أشهر، أما المغافرة القادمين من بعيد فلم يقدروا على مواصلة الحصار، لأن زادهم نفد ودخل الوهن والملل والتخاذل إلي صفوفهم، وعند حلول فصل الشتاء القارس في تگانت بدأ حلف المغافرة الغزاة يتصدع فكان أول من رحل البراكنة ثم الترارزة.
و عندئذ شرع إيدوعيش يحاربون البقية حتى تمكنوا من دحرهم.
هذه الوقائع ذكرها الشعراء والمؤرخون و خاصة سدوم ول انجرتو.
وبفضل هذه الاتفاقية المهمة نجت إدوعيش من إبادة محققة وبفضلها تم تأمين اكصرتجگجة وتجارة إدوعلي واقتصادهم وأسقطت عنهم الضرائب، وخلدها الشاعر بقوله :
جدّو ولْ أحمد وكتنْ عانْ :: لدوعيش أيام النگظان
بالمؤونه والتيوتان :: امحمد خلص ذاك الدين
خلص لحنيكات ابلمان :: و الحمايَه من لعادين
واكصرتجگجه يلو كان :: ما رَ جدو وامحمد شين
ايعود ألا كشيءٍ كان :: واخل منّو لادميّين
كيف أزوگي فول لزمان :: و اكصرتگبه فالمحدثين
ويعزو البعض هذه الطلعة لسدوم ولد انجرتو، لكنها ليست من شعر سدوم لأنها ذكرت تگبه وهذه الحاضرة بنتها تجكانت في أفله قرب أطلال عاصمة المرابطين الأثرية أوداغست وذلك بعد سدوم.
وبعد الحصار قوي وجود إدوعيش في تگانت بل امتد إلى لعصابه والرگيبه.
وتوفي الأمير امحمد شين سنة 1788 ودفن قرب گـرو.
– محمد بن امحمد شين: انقسمت إدوعيش بعد وفاة امحمد شين إلى طائفتين هما بخواگه ومكزوزه، وكان محمد من زعماء بخواگه فاستولى على الإمارة وحارب مكزوزه، وقوي إدوعيش في عصره فانتصرعلى أولاد امبارك في أكثر وقعاته معهم وتوسعت إمارته جنوبا وإلى الجنوب الشرقي، وكان عادلا مهابا فكان يشق الطرقات في الجبال ويسد المغارات ويؤدب الظلمة، وبلغ من الهيبة والعز أن صار ينتجع خارج حدود إمارته في سنوات القحط.
مات بعد أن انفجرت عليه حزمة من البارود سنة 1820م ودفن عند الصبيبير بلجام تگانت.
وانقسم إدوعيش بعد موته إلى طائفتين متناحرتين إحداهما بزعامة اسويد أحمد بن محمد بن امحمد شين والأخرى بزعامة عمه المختار وإخوته.
ولَقبت الأولى منهما الثانيةَ (اشراتيت) للتعبيرعن ظلمهم وسيبتهم، ولقبت الثانيةُ الأولى (أبُكاك) وهو نوع رديء من الصمغ للتعبيرعن أن الحرب ألجأتهم إلى أكله.
ودارت الحرب بين الطائفتين سنوات إلا أن معظم تگانت كان خاضعا لأبكاك.
– اسويد أحمد بن امحمد بن امحمد شين: اشتد الصراع في عهده بين اشراتيت وأبُكاك فكثُرت التوبة في صفوف الفريقين والإلتحاقُ بالعالم الفارس عبد الله (النهاه) بن سيد محمود الحاجي الذي فتح بالموازاة مع ذلك الحرب على كنته.
وكان اسويد أحمد جلدا صبورا خبيرا بالمراوغة يروى أنه جرح مرة بضع عشرة جرحا فأصبح مضمد الجراح صائلا على أعدائه، ولما توفي عمه المختار سنة 1826م مال إليه أكثر اشراتيت فحارب بهم عمه اعلي بن امحمد شين الذي تحالف مع كنته وأولاد الناصر ووقعت بينهما أيام شديدة حتى ضرب المثل بعداوته مع أعمامه فيقال (بينهم إلّ بين اسويد أحمد وأعمامو).
قُتل اسويد أحمد غدرا على يد مولى لعمه اعلي في نوفمبر 1829م ودفن في أفام لوديات شمال غرب الرشيد.
وبعد موته اشتدت الحرب بين أعمامه سليمان وعبد الله، إلى أن دخل ابنه بكار على الخط فاستولى على الإمارة.
– بكار بن اسويد أحمد بن امحمد بن امحمد شين: كان محالفا لعمه عبد الله، ولما أحس من نفسه القدرة على الحرب انشق عنه ونصب نفسه أميرا لتگانت فانضم له جمهور أبُكاك وأهل سيد محمود ووقعت بينه وعمَّه عبد الله وقعات دامية من أشدها يوم أوسار واضطر عبد الله إلى الإلتحاق بكنته ومساكنتهم.
استبد بكار بملك جمهور إدوعيش، وكان حكيما شجاعا كريما ناصرا للمظلوم ذابا عن الزوايا، بدأ التبادلَ مع الفرنسيين وخاض حروبا توسعية فامتلأت الأرض رعبا منه.
حارب اشراتيت حتى أخمد ثورتهم، وحارب أولاد امبارك حتى شارك في القضاء عليهم، وحارب مشظوف حتى ضيق عليهم، وحارب لبراكنه والترارزه وأولاد يحيَ من عثمان الذين تدخل في إمارتهم عدة مرات.
وطال عمر بكار حتى أدرك الإجتياح الفرنسي الذي بادر كردة فعل عليه بقطع التجارة مع الفرنسيين ثم تصدى لهم بنفسه واستشهد وبندقيته في يده في معركة بوڭادوم ضد المستعمر رحمه الله.
– عبد الرحمن(الدان) بن بكار: تولى عقب أبيه وكانت إمارته رمزية لسيطرة المستعمر، لكنه كان ذا سلطان وهيبة، وكان من فتيان زمانه المذكورين، يقول فيه الأديب امحمد بن هدار:
عبد الرحمن امنين اغيب :: إلّ لهلُ يختير اجيبْ
اسمع زين ؤشان ؤترهيب :: واسمع زين ؤترهيب ؤشان
وكانُ عند گاع اگرييب :: گبل اغيب امحصلهم كان
عبد الرحمن أهل الطَلبَ :: يعطيهم مالُ بالطربَ
ما يعرف يگس للطلبَ :: ولا يعرف يليان الحسان
ولا يڭبظ للطلبَ زغبَ :: وحسان اماسيهَ دكانْ