بشكل استثنائي ومحصور أخرج على ما كنت أنوي من عدم الخوض ،خلال رمضان، في غير ما يتطابق مع روحانية الشهر الفضيل، لأقدم التهاني للشغيلة الوطنية بمناسبة عيد العمال الموافق لفاتح مايو وعلى الخصوص منهم عمال المناولة (دوكيرات) بميناء انواكشوط المستقل المعروف بميناء الصداقة الذين أحفظ لهم الود لسابق صحبتي وإياهم بعضا من الوقت.
وهؤلاء العمال في الحقيقة هم جنود خفاء لأنهم يكابدون المشقة والسهر عندما يخلد الآخرون للراحة والنوم.
أخيرا يبدو لحسن الحظ أن "الكابوس" الذي عايشوه ردحا من الزمان يلامس الانحسار أو بالعبارة الدارجة ، تتراءى أخيرا لسفينة تطلعاتهم آمال الوصول إلى بر الأمان وذلك على ضوء ما جرى من أيام تشاورية حول قضيتهم-خلال فبراير الماضي- بقصر المؤتمرات بتنظيم من الإدارة العامة الحالية لميناء الصداقة بحضور القطاعات الوزارية المعنية(النقل و الشغل...) واتحادية أرباب العمل(الموردون/الشاحنون ،شركات المناولة والناقلون...الخ) وطبعا النقابات ومندوبي العمال بالإضافة لكل المتدخلين الآخرين المعنيين بالنشاط المينائي
ويبدو أن الحلول المجترحة كمخرجات لهذا اللقاء كانت على مستوى التطلعات في التعامل مع ما ظل قدما مطروحا من مشاكل متشعبة ومزمنة ( العدد الفائض مقارنة بطلب العمل المتناقص، النظام القانوني الخاص بالفئة، التكوين وزيادة الدخل و الاستفادة من الخدمات الهامة المختلفة...الخ).
إن التكفل المباشر للسلطة المينائية بالتعامل مع هذه المعضلة الكبرى يعني أن الدولة قررت أخيرا مسك الثور من قرنيه .
وستعني هذه الخطوة أن الطريق أضحى سالكا نحو ما ظل مأمولا من عصرنة القوى العاملة المينائية مما سيكون له دون أدنى شك انعكاسات ايجابية على القدرة التنافسية للميناء في المحيط ومن وراء ذلك حدوث الكثير من التأثيرات الاقتصادية الايجابية المستحثة ، الجوهرية والواسعة النطاق.
وهذا التطور المهم لا يعدو أن يكون ثمرة لإرادة سياسية سامية حازمة حول الموضوع ربما تبدت بشائرها خلال الحملة الرئاسية الماضية ولا سيما خلال مبادرة العمالة المينائية المنظمة يوم 21 مارس2019 بدار الشباب لدعم الرئيس الحالي(المرشح حينها) فخامة السيد محمد ولد الشيخ الغزواني و حيث صدرت بالصدد تعهدات مهمة .
وللإنصاف تشكل قضية العمالة المينائية معضلة مركبة ومتشابكة تتداخل فيها الأبعاد و الحساسيات من كل النواحي الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
ففي مجتمع الميناء توجد متساكنة جميع إشكالات البلد بكل تجلياتها المختلفة: من الانتماء المناطقي إلى التنوع البشري وصولا إلى الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.
والميناء يطبيعته نقطة التقاء وبؤرة تناقض فعلى حيزه تتساكن تجاورات عجيبة: -البر مع البحر ،
-العمومي مع الخصوصي
- وأخيرا الأغنياء مع الفقراء...الخ.
وعلى صعيد آخر يشتهر عمال الموانئ تاريخيا بكونهم طليعة النضال والرفض ومفجري و وقود الثورات أي أنهم صناع التاريخ غالبا والأمثلة من استقراء التاريخ لا تحصى:
1 - بدأت الثورة الأمريكية التي قادت للاستقلال من عمال ميناء بوسطن يوم 16 دجمبر 1773م؛
2 - تشهد الثورة البلشفية بالدور الحاسم الطلائعي لعمال ميناء مدينة "سان بطرس بورغ ".
يمكن المطالعة بهذا الصدد الكتاب المشهور ل "مالابارت" عن الموضوع.
3- وحديثا فإن الثورة البولندية التي حدثت في ثمانينات القرن الماضي وأدت في النهاية إلى سقوط المعسكر الشيوعي الشرقي كانت قد انطلقت شرارتها الأولى من أحواض السفن في مدينة "إغدانسك" و خصيصا من عمال نقابة "التضامن" بقيادة ليش فالنسا رئيس بولونيا لاحقا.
4- وعندنا هنا ، ففي خضم مفاعيل "الربيع العربي" و حين رفع ،في وقت ما، شعار أو برنامج " الرحيل " للنظام القائم آنئذ، فقد اتجهت الانظار صوب العمالة المينائية بوصفها الأقرب للانخراط لدواعي بنيوية و ظرفية خاصة بها .
كما كانت فئة العمال الظرفيين كبيرة العدد والتي تقاسي القدر الأوفى من الحرمان و المعاناة والمطالب غير المنجزة ،الأكثر تعبئة لأسباب واضحة ووجيهة.
بالمقابل وخلال الفترة التي عايشتهم فيها فقد كنت شاهدا على على تحقق الكثير من المكاسب غير المسبوقة كاستفادة العمال الظرفيين على الخصوص من تقاعد الشيخوخة
بالإضافة إلى بعض التحسينات المهمة الأخرى كزيادة الراتب والنقل والصحة والتكوين وهلم جرا....
وهذه المكتسبات كانت محل عرفان وإشادة علنية من طرف العمال أنفسهم وهم من هم تسيسا و وعيا كبيرا بشكل قد يفاجئ الكثيرين ممن لم يتعرفوا عليهم عن قرب . وهم يتميزون كذلك بشدة التشبث بقيم العدل والإخلاص مع طيبوبة القلب وبذور الاستقامة الفطرية.
وبشكل ما يمكن اعتبار الحلحلة الجذرية التي في الأفق كالمحطة النهائية والتتويج السعيد لمسلسل تراكم المكاسب المهمة المتحصلة عبر نضالات هذه الفئة العمالية رغم ما واجهت من كثرة التحديات وتثاقل الاستجابات.