نوادر الاغنياء تُعيد قراءة كتاب الجاحظ في موريتانيا

جمعة, 04/08/2022 - 11:47

يقال إن الإبداع عمومًا يتحرك من التجربة الذاتية في أغلب الظروف، ويمكن أن تضحك كثيراً وأنت تطالع كتاب البخلاء للجاحظ الذي اصبح يعتبر مدونة لعصره في فنون البخل، إن جاز للبخل أن يكون "فنًا".

لكن وراء ذلك الضحك تكمن الحكمة ، أن الجاحظ قد يكون تأذى من البخلاء، ما يفيد بمفهوم أكثر عمقا، وهو أن البخلاء ليسوا سوى لسان حال يُعبر عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فمن خلالهم تتكشف البنى العديدة لنسيج الحياة في أي عصر كان.

ورغم أن "البخلاء" يصوّر لنا العصر العباسي بشكل عام وإنسانه، في علاقته بالمال والمنحى الاقتصادي، ممثلًا في نموذج البخيل، الذي يبدو حاضرا بوضوح في المجتمع، وإلا لما أثار الانتباه، فإن ظاهرة البخل تعيد ترجمة البخلاء من جديدة اينما وجدت.

وتشهد الظاهرة في العصر الحديث نقلة من العامية والشعبوية إلى النخبوية، لترتبط الظاهرة خارج كتاب الجاحظ بالأثرياء في موريتانيا، ولتعيد قراءة نص البخلاء بلهجة حسانية، تحكي من النوادر والملح، والتي لا تضحك السن، بقدر ما تدمي القلب.

فقد قال محمد بن المنكدر: (كان يقال: إذا أراد الله بقوم شرًّا أمَّر الله عليهم شرارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم).

وقال بشر بن الحارث: (البخيل لا غيبة له؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنك إذًا لبخيل).

والجبن والبخل قرينان، كما قال ابن القيم، فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل.

وتشهد موريتانيا المعاصرة حالة مستكملة من ظاهرة البخل بين الأقلية المتقاسمة لثروة البلد، قد تشكل إبداعا في فنون البخل، وقراءة جديدة لكتاب الجاحظ بالحسانية في بلاد المنارة والرباط.

ورغم حالة الفقر والبؤس والشقاء التي تعيشها غالبية الشعب الموريتاني، يستطيع أبسط البسطاء في العاصمة نواكشوط، معرفة الأشخاص الذين أريد لهم أن يجمعوا ثروات الشعب في ملكيتهم الخاصة على مدى اربعين سنة من تطور ثقافة النهب والفساد، وغياب مبدأ المحاسبة والعدالة الاجتماعية.

فمن مصرف وبنك فلان، إلى شركة فلان، وقرية ومدينة فلان، يختلط الحابل بالنابل والسلطة بالقرابة والمصاهرة، لتنتج أثرياء، مقابل فقر وحرمات تتبدد تجاعيده على وجه بلد بكامله.

صناعة رجال المال في موريتانيا

ولعل الرعيل الأول من رجال الأعمال قد ساهم دون شك بمواهبه وعطائه في تأسيس الدولة، وشكل نخبة وطنية ساهمت في تنمية البلد الناشئ ، ولكن!.. فَخَلَفَ مِنۢ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ.. .

وقد شكلت الأنظمة المتعاقبة مصدرا لصناعة رجال المال، وسخرت أموال الشعب الموريتاني آلية لمبدأ عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، في تحويل من تشاء إلى رجل أعمال في ظل استشراء ثقافة الفساد في مفاصل الدولة، وتسارع انتشار الفقر بين عموم الشعب.

وبعد عقود من النهب والفساد تكونت لدينا نخبة تعد على رؤوس الأصابع، غنية غناء فاحشا اطلق عليها رجال الأعمال، شكلت خليطا من المدرسين الهاربين عن الخدمة، وباعة لوازم المكاتب والتمور والفحم والألبان، واصحاب السوابق ومتسكعي نوادي القمار.

وتتغير النخبة الجديدة بتغير الأنظمة، حيث يتم تهريب أموال الشعب التي بحوزتهم إلى الخارج في كل تغيير للحكم ليختار الجديد نخبته على مقاسه الخاص، وتتلون أخرى تزلفا لتلحق به، وهكذا دواليك.

ولطالما شكل رجال الاعمال منذ عقود من الزمن مصدر إزعاج للمواطن الموريتاني ، من حيث الارتفاع المتصاعد لأسعار المواد الأولية، وتزوير المواد الاستهلاكية، والدواء، وتسليط المصارف الأسرية والشخصية سيفا على كاهله، كلها عوامل ارهقت المواطن الموريتاني، وكرست سياسة تفقير الشعب الموريتاني، حيث اختفت الطبقة المتوسطة تدريجيا، لتتكدس الأموال بيد ثلة من الأسر والأشخاص تتحكم في مصير شعب فقير بكامله.

وتشكل ظاهرة البخل القاسم المشترك بين رجال أعمالنا، في ظل اتساع رقعة الفقر، والكوارث الطبيعية والأمراض والجائحات التي تهدد شعبنا الفقير على ارضة الغنية .

ولعل غياب أيادي بيضاء لرجال اعمالنا في تنمية البلد، ابرز التحديات أمام مستقبل تنمية البلد بعد عقود من من النهب والفساد.

غياب في العمل الخيري، من حيث الدعم والعطاء والمكرمات، سواء في المستشفيات والمراكز الصحية أو العمل الإجتماعي ودور العبادة ، أو الحق المعلوم (الصدقة والزكاة).

ولكن الحضور سياسي، والتنافس على التقرب، وتنافر وإقصاء تارة، وتنافس للاستيلاء على أموال البلد بكل الوسائل، وفي كل ما هو ربحي بشهية مفتوحة، وبكل جشع وأنانية.

فلا تكاد اليوم تسجل حضور اغنياء موريتانيا الجدد إلا إذا تعلق الأمر بالانتخابات الرئاسية، أو بصفقات التراضي ومشاريع الدولة.

نوادر الأغنياء

ومن أبداعات ونوادر البخل مالم يجده الجاحظ في العصر العباسي، وهو تسول الأغنياء ومقاسمة الفقراء.

فرغم الغناء الفاحش لرجال أعمالنا، فإن أسماء بعضهم لا تزال على قوائم الفقراء، عند تقسيم المساعدات، والقطع الأرضية، وتزويرها تارة، وحتى في مزاحمة قوائم "الفقراء" المستفيدين من صندوق دعم الصحافة المستقلة .

فلا تكاد تجد تجمعا للفقراء على باب أو مأدبة.. إلا وتجد رجال أعمال متخفيين يزاحمونهم حتى في التسول.

وقيل ابدع بعض رجال الأعمال في البخل في شهر رمضان المبارك حيث اتخذ بعضهم شبكات للاستفادة من المواد المخفضة، بينما بعث البعض الآخر الأقل جشعا، فرقا لشراء المواد من المستفيدين وعودتها إلى المخازن.

وتحدثت مصادر عديدة عن معلومات متطابقة، تفيد أن الشقيقة الجزائر تألمت لحال الشعب الموريتاني، ففتحت ثلاثة خطوط، بحري، وبري، وجوى، لتوفير بعض السلع بأسعار في متناول المواطن، فتدخل رجال أعمالها الأثرياء، واشتروا كل المعروض واحتكروه في مخازن، أملا في فتح باب المضاربات فيه مستقبلا.

فليتنا نعتمد منهج الجاحظ لنستوحي من الاستقراء والتحقيق والمقابلات، لننجز أثرا أكبر، تتجاوز نوادره كتاب البخلاء في العصر العباسي،  إلى العصر الموريتاني الحديث في حكاية الفقر والحرمان والشدائد، رغم تنوع الموارد.

ومهما يكن من أمر فإن من ابسط حقوق البلدان المفقرة، إعانة فقراءها.

وصدق العلامة مولاي عبد الله بن مولاي الحسن حين قال من بحر الطويل

ألا إن مال الحر ترس لعرضه // فأنى يبقي المال حر عن العرض

كما أن عرض الحر صنو لفرضه // فلا فرق بين العرض في الشرع والفرض

أرى المرء ذا يومين لو كان ذا غنا // وقد نال ما يرجو من الطول والعرض

فيوم مع الأحياء حيا مملكا // ويوم مع الاموات في حفرة الأرض

فإن كنت ذا عرض وعين لقنية // فلا تنسى يوم العرض في العين والعرض

فلا بد أن تدعى لدى الأقوام حافيا // هنالك لا ينجيك عرض عن العرض

وإن كنت ذا قرض تريد ثراءه // فما أحد أوفى من الله في القرض

مولاي الحسن مولاي عبد القادر