ما أروع أن يتحدث المسؤولون العموميون (عسكريون كانوا أم مدنيين) كشهود على المراحل التي شغلوا فيها مناصب رسمية، وأن يقدموا حولها الحقيقةَ كما علِموها واطلعوا عليها، دون خوف ولا مجاملة، ولا نكايةً بأحد أو إكالة مديح لآخر. لقد استمعت اليوم لمقابلة مع العقيد والوزير السابق محمد ولد لكحل حول حرب الصحراء وما اكتنفها من مشكلات ومصاعب، حيث اتّهم العديدَ من الأشخاص والجهات، بما في ذلك الرئيس المختار ولد داداه الذي نعته بالضعف، وكذلك ضباط الجيش الذين اتهمهم بالجبن حيث قال إن الكثيرَ منهم هرَبوا من ساحة المعركة متذرعين بمبررات طبية، وإن الطيارين منهم رفضوا نقلَ الأسلحة والذخائر لجنودنا خلال معركة آوسرد.
كما اتهم المدير العام لشركة «سنيم» في حينه، إسماعيل ولد اعمر، بالتوقف عن مد الجيش بالوقود، مما شلَّ حركة وحداتنا العسكرية وكاد يقضي عليها. أما التهمة الأكبر والأخطر في المقابلة فهي قوله إن السعودية أعطت بلادَنا شيكاً أبيضَ لشراء احتياجاتها من السلاح، لكن قيادة الأركان أبرمت صفقةً فاسدةً مع جهة إسبانية ما (لم يحددها)، وذلك بالتمالؤ بين قائد الأركان شخصياً امبارك ولد بونه مختار وشقيقه أحمد سالم (رجل الأعمال الحالي) الذي كان وقتَها سفيراً لبلادنا في مدريد، حيث تم تزويد الجيش بسيارات ومعدات قديمة غير صالحة للاستعمال.
ورغم أنه في هذه يتهم الجيش بالخيانة والتآمر على نفسه، فهو يعتبر أن صفقةَ السلاح الإسباني كانت سببا ًرئيسياً وراء انقلاب ضباط الجيش على الرئيس المختار! على كل حال هناك معلومات متضاربة وآراء متعددة حول بداية التفكير في الانقلاب على الرئيس المختار، منها ما أفادنا به ولد الكحل نفسه في هذه المقابلة، وخلاصته أن التفكير في الانقلاب بدأ مع معركة آوسرد حين واجه العسكريون مصيرهم دون أي مدد. ومنها وما ذكره المختار في مذكراته حيث تحدث عن اجتماع نظَّمه مع كبار الضباط في أكجوجت، وفيه وجّه إليهم كلاماً صريحاً وصارماً خلاصته أنه لا يريد استمرار الحديث المتداول في الشارع حول فساد بعض القادة العسكريين وحول قيامهم بالتربح من الوسائل المخصصة لوحداتهم، لاسيما الوقود والمؤونة الغذائية، وإنه حفاظاً على شرف العسكرية وصيانةً لصورة الجيش ولحقوق الجنود فسيضطر لفتح تحقيق في الموضوع وإحالة المتورطين على المحاكمة العسكرية.
يقول المختار إنه كان قاسياً في تحذيراته بذلك الشأن، وإن هاجساً انتابه على الفور من أن تؤثر تلك التحذيرات على معنويات الضباط وهم يخوضون الحرب نيابةً عن الوطن، كما يعرب عن الاعتقاد بأن إصراره على المساءلة كان سبباً رئيسياً وراء انقلاب 10 يوليو.. لكنه يستدرك قائلا إن ذرةً من الندم لم تخامره في أي لحظة على التصرف وفق ما يمليه عليه ضميره وواجبه الوظيفي، أي رفض الفساد والتحذير منه والتشهير به ومحاربته بكل الوسائل والإمكانات، أياً كانت النتائج المترتبة على ذلك.أما الرواية الأخرى حول بداية التفكير في الانقلاب والتخطيط له، فقد وردت على لسان أحد قادة جناحه المدني في مقابلة صحفية مطولة منشورة قبل عدة أعوام من الآن، وفيها أفاد بأن البداية تعود إلى عام 1967 عندما اتفق مع زميله في المدرسة الثانوية على أن يتوجه الأخير إلى العسكرية ويتوجه هو لدراسة السياسة والاقتصاد، بهدف تنظيم انقلاب والإمساك بالسلطة..
وهو ما كان بالفعل. وبالعودة إلى حديث ولد لكحل حول الوضع الميداني ونقص التموينات، نتساءل: كيف يصح أن تكون موريتانيا في يوم 10 يوليو 1978 تحكم قبضتها على كامل ولاية تيرس الغربية (وادي الذهب)، بينما قواتها تعاني من نقص الوقود والذخيرة والتموينات؟ وكيف يمكن لقضية مثل شراء أسلحة فاسدة أن يتقبلها أو يتغاضى عنها وزير الدفاع محمذن ولد باباه المعروف بصرامته في تسيير المال العام والحفاظ عليه؟ وإذا فاتت على وزير الدفاع فكيف تفوت على الرئيس المختار نفسه الذي وصلته معلومات بشأن قضايا أقل أهمية مثل بيع الوقود المخصص للجيش، وأثارت حفيظته إلى الحد الذي يصفه في مذكراته؟ وهل يمكن للمختار نفسه أن يتسامح مع فساد بهذا الحجم وهو الذي خسر بعض أعزاء أصدقائه وأقربهم إليه بسب مجرد شبهات فساد بسيطة؟
وإذا كانت اللجنة العسكرية قد تحدثت بعد انقلابها على النظام المدني عن جميع أخطائه ومثالبه وخياناته، الحقيقي منها
محمد المنى