المساواة والديمقراطية، المساواة وحقوق الإنسان، الحرية الشخصية، حرية الرأي، الكلام في أي موضوع بوجهة النظر الحرة كما يُدَّعى....و حرية كذا وكذا، كلها عناوين.
يرى بعض أهل هذا المنكب المنكوب أنها تعنى حق الإنسان في الكلام في كل موضوع بما يراه، ويرى البعض الآخر أنها تعنى المساواة في كل شيء، بحيث لا يبقى التمايز ذا دلالة، ولا ذو مضوع.
ولكن الأمر قائم علي غير ذلك، و قد أحببت - بعد تأمل في الأمر- أن ألفت نظر هؤلاء إلى أمور مهمة هي مفتاح الولوج الى إدراك كنه هذا الموضوع، ومحاولة جادة لسبرِ غَورِهِ وتحليله، وترتيب النتائج علي ذلك، وهو ما يعطي حقيقةً قلّ أن يوجد لها واعٍ إذا لم أقل ينعدم من يعيها بيننا، وهي:
- أولا: يجب أن نفرقَ بين المساواة والتّساوي، فالأولى واجبة بحيث أنها ثابتة الوجوب للإنسان بمجرد انسانيته وآدميته، رحمه من الله سبحانه وتعالى بسائر مخلوقاته، أما الثاني (التساوي) فلا يكون إلا بشروط، فالانسان غير متساوٍ في ذاته، بحيث إذا قلنا بالتّساوي؛ فقد كذبنا كلام ربّنا جلّ جلالة حيث يقول: ( نَرْفَع دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاء ) بِتَنْوِينِ " الدَّرَجَات " يَعْنِي: نَرْفَع مَنْ نَشَاء مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ فِي الْعِلْم عَلَى غَيْره، كَمَا رَفَعْنَا يُوسُف، فإذا كان عدم التساوي سنة كونية - حتى بين الإخوة - فكيفَ نريدهُ واقعاً بيننا دون التساوي في المميزات ؟
- ثانيا: إن الخطأ عظيم حين يغيب عن وعي الكثير من المنظرين والدّارسين، أن الرزق تعني في كلام الله كل شيء يمكن وصفه بالمفيد للإنسانة مهما كان تصنيفه؛ حسياً كان أو معنويا، فقد يكون صحة أو علما أو بسطة في الجسم والمال، إلى غير ذلك من الأرزاق.
صحيح أنه لا فضلَ لعربيّ على عجميّ إلاّ بالتقوى، وصحيح أن الناسَ كلهم لآدم وآدم من تراب، وصحيح كذلك أن الشرع أمر بالمساواةِ، لكنه أيضاً أقرّ عدم التّساويّ، فالشرعُ حين يقرّرُ الحقوق يساوي بين الناسِ في حقِ الحصولِ عليها وامتلاكها، لأن مناط استحقاقها هو الآدمية والآدميةُ فقط، ولكنه حين يعطي الميزات يرفعُ درجةً على درجةٍ بما لها من المميزاتِ والقدراتِ الشّخصية.
والذي يعجز منظورا (المتثاقفة العصرية) أن يدركوا فيه الحدَ الفاصلَ بين الإثنينِ هو:
1- الأصل أن كلّ حقٍ هوّ متقرر بالانتماء للإنسانية فقط؛ فحقُ التعلم يجب أن يُتاحَ للجميعِ، وحقّ التّميُّزِ متاحٌ للجميعِ؛ بمجرد الانسانية، أي: (المساواة) لكن من سيتميّزُ ومن سيتعلّمُ هم قلّة وليسَ الكلّ طبعاً.
2- الأصل أن التّفضيلَ بين البشرية قائمٌ على أساسِ المميِّزات الشخصية وليس على غيرها، مما هو مشتركٌ بين البشرية جمعا، وهو ما يتعارض مع (التّساوي) قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). صدق الله العظيم.
والسؤال هنا في قوله جل من قائل دالٌ على عدم امكانية التّساوي حقيقة بين من يعلم ومن لا يعلم، فلا يستوي الذين يملكونَ العلمَ في القيمة الإنسانية والذين لا يملكونه، بل يتقدم العلماء على الجهلاء عند الناس وعند الله الذي يريد لعباده أن يأخذوا بأسباب العلم، وينطلقوا في رحابه، ويتعمقوا في أسراره، ليحصلوا على الهدى من خلاله، وليصلوا إلى معرفة الله في وعيِ الإيمان، وحركةِ الالتزام. وقد استوحى الإمام علي رضي الله عنه هذا المعنى فقال: "قيمة كل امرىء ما يحسنه"، فأعطى المعرفةَ دورَ القيمة، في مقابل الذين أعطوا القيمةَ للمالِ وللجاهِ، ولغير ذلك من متاع الدنيا وقيم المادّة.
فالتساوي يكونُ في أسبابِ امتلاكِ المميزاتِ، والتفضيلُ قائمٌ على ما تحققَ من امتلاكها فعلاً.
إذن، يحسنُ أن يعرفَ المرءُ قدرَ نفسِهِ ويقفَ عندهُ، كما يحسن به أن يعرفَ سبب تأخّره أو مبرّر تقدّمِه على الآخرين، فليس - طبعا - لأنه من كذا، أو ابن فلان، ولكن ليس الكلُّ متساوون أيضاً، كما لا يستوى الخبيثُ والطيِّب، ولا تستوى الظلمات والنور، ولا الظّل ولا الحرور.
تأملات عاطل